(نيتشه في عمل لـ إدفار مونش)
كتاب “التخلّص من نيتشه” للباحث التونسي المقيم في إيطاليا محمد المزوغي، والصادر مؤخراً عن “إفريقيا الشرق”، يمكن اعتباره بمثابة ترياق وصدمة، إذ إنه يسعى إلى نزع هالة القداسة التي أحاطت الفيلسوف الألماني في ثقافتنا العربية.
فالعمل الذي يتّخذ الشكل الشذري، في خطاب مضاد لمنهج نيتشه نفسه في الكتابة، نقدٌ وتمحيص لأفكار معشوق الكثيرين من المثقفين العرب، حيث وضعت أفكاره على مشرحة العقل دون تقديس – مثلما يفعل أغلب المثقفين العرب المهووسين بتقديس بعض الأسماء والتعامل معها بصنمية، أو من الفلاسفة الغربيّين من أمثال (هايدغر، جيل دلوز، فوكو، بول ريكور)، حبّاً للحقيقة التي حاول نيتشه تحطيمها برفعه شعار: “لا حقيقة. كل شيء مباح”.
كيف يمكن تفسير حضور نيتشه كمفكر محبوب في القرن الـ20؟
بعد استقراء واستنطاق مؤلفات نيتشه، سواء المترجمة للعربية أو المكتوبة بالألمانية، مثل “ما وراء الخير والشر”، و”جينيالوجيا الأخلاق”، و”العلم المرح”، و”هكذا تكلّم زرادشت“، انصبّ نقد المزوغي حول نقاط كثيرة، منها نزوع نيتشه للاحتفاء بالعنف والسادية، وهو أمر يتنافى مع جوهر الفلسفة ويتعارض مع رسالتها الفكرية، حيث يثني على القوة ويمدح الحرب ويحرّض صراحة على سحق الضعفاء، وهو ما يعبّر عنه المزوغي بشيء من السخرية السوداء حيث يجد “وكأنّ داعش هي التي تتكلّم في قوله: (إن رؤية الآخر يعاني تُنعشنا وتَعْذيبه يُنعشنا أكثر)”.
يدرس المؤلف أيضاً علاقة نيتشه بالعلوم “الصحيحة”، التي يعتبرها عدوانية إلى حد كبير، ففي “جينيالوجيا الأخلاق” يشير الكتاب إلى أن نيتشه يستاء من تحويل كوبرنيكوس مركزية العالم من الأرض إلى الشمس، مُعتبراً هذه الزحزحة تقهقراً في نظرة الإنسان لنفسه. وهو ما يمثّل تناقضاً مع أفكار مؤلفات أخرى عمل فيها على إهانة البشرية والسخرية من أعمالها وتقزيم فنّها وأدبها وفلسفتها.
الأخطر من ذلك هو النقد اللاذع للحداثة ومكتسباتها الاجتماعية والسياسية، حيث يرفض نيتشه مبادئ المساواة والحرية، ويعتبر تلك المكتسبات السبب الرئيسي للانحطاط والتخلف الذي يعيشه المجتمع الأوروبي. فهي بمثابة مظاهر مَرضيّة تُنبئ بخطر على الإنسان الغربي وحضارته الحديثة.
هكذا قلب نيتشه سلّم القيم، ولكن في اتجاه عدمي ولاأخلاقي، حيث جعل من الفضيلة رذيلة ومن الرذيلة فضيلة، محطّماً بذلك كل الضوابط الأخلاقية. كما أنه يدعو إلى التمرد على القوانين وعلى مؤسسات الدولة، لا لإحلال نظام جديد محلّها أكثر ديمقراطية وأكثر حفظاً لكرامة الإنسان، وإنماً لإحلال نظام حربي يأكل فيه القوي الضعيف.
يدرس المزوغي نظرة نيتشه لشعوب أخرى، مثلاً كرهه للإنكليز كشعب وكمثقفين، حيث يحكم على الإنكليز بأنهم ليسوا عرقاً فلسفياً، ويضيف أنّ فرانسيس بِيكون هو “عنوان الاعتداء على الروح الفلسفية بعامّة”. هنا يتساءل المزوغي: ما دليل نيتشه على حكمه هذا؟ مشيراً إلى أنه لا يحيل على نصوصهم ولا يذكرها. كيف لا نستاء من تداعيات عنصرية من هذا القبيل؟ يتساءل المزوغي، وماذا تفيدنا، على المستوى الفلسفي، وما موقعها من الفكر المنسجم الدقيق؟
لا تفلت من غربال المزوغي مسائل مثل تمجيد العبودية، حيث يذكر نيتشه في كتاب “ما وراء الخير والشرّ”، أن العبودية ليست “حُجّة ضدّ كل حضارة راقية”، بل هي “شرط لكل حضارة راقية ولكلّ سموّ حضاري”. ويذكر أيضاً موقف نيتشه الفظيع والصادم من المرأة، حيث اعتبرها أمَة وحصر وظيفتها أو مهمّتها الأساسية في ترفيه الرجل (السيّد)، والإنجاب بهدف خلق محاربين أشدّاء. أما حبّة السخرية النيتشوية، فهذا النص الذي يلتقطه المزوغي ويقول فيه نيتشه “لا شيء أغرب عن المرأة من الحقيقة. لا شيء تمقته وتعافه أكثر من الحقيقة. فنّها الكبير هو الكذب، غرضها الأعلى هو الظاهر والتجمّل”. وهو بذلك ينافس رؤية من نسميهم اليوم بالسلفيين في نوع من الإشارات المتهكمة التي يقدّمها المزوغي وتخفّف من النزعة النقدية الصارمة للكتاب.
لكن من وراء هذه النقاط السلبية، وبعضها مما لا يخفى على أي قارئ عربي، كيف يمكننا أن نفسّر حضور نيتشه كمفكر “محبوب” طوال القرن العشرين وما بعده؟ إنه سؤال لا تمكن الإجابة عنه بالعودة إلى نصوص نيتشه فحسب، بل ينبغي النظر في مجمل عوامل التقبّل المتوفرة في الثقافات التي احتضنته.
* باحثة من الجزائر
((العربي الجديد))