أكتب إليكِ من شرفة بيضاء صغيرة لبيت بحجرة واحدة، وسرير خشبي يتسع لأجساد أربع فتيات بحجمك، اخترتُ صوفا رمادية بجانب طويل للاستلقاء، زينتها بوسائد تحمل صوراً لأزهار ذائبة وعصفورين ملتصقين ينظر كل منهما في اتجاه بعيد، كما أضفتُ اليوم لوحة للأمير الصغير، ظله فيها يوازي ظل الزهرة التي ما يزال يحرس هشاشتها من ضراوة العالم.
“نجمتي صغيرة للغاية، لا أستطيع أن أدلك عليها.. هذا أفضل، ستكون نجمتي بالنسبة إليك كسائر النجوم”.
الأمير الصغير-أنطوان دو سانت أكزوبيري
أظنني أوفيتُ بوعدٍ قديم دون أن أخطط لذلك حقا، بيتٌ صغير أنثوي التفاصيل كبيت الدمى، لهذا ما زلتُ حين أخرج للمشي ليلاً أترك الحجرة مضاءة، وستارة النافذة مواربة قليلاً، لأتأملها من الخارج بعينيكِ التين لا تصدّقان أي شيء. تنظرين إليّ من بعيد كما لو كنتُ دمية تتحرك في البيت، تُبقي خزانة ملابسها مفتوحة على الدوام، وحقائبها مبعثرة على الأرض، كما لو كانت متأهبة دوماً لقيامة محتملة. أحياناً يسقط ثوبٌ من مكانه على الكرسي المقابل للمرآة، ويظل في محله لأيام. ما الفارق الذي ستحدثه عودة الأشياء إلى أماكنها الصحيحة؟ أفكر وأنا ألقي بثوب إضافي على ظهر الكرسي نفسه. لسببٍ ما، لا يعود لهذا السؤال أي وزن وأنا على مقعد المعالج النفسي، يزدردني الظمأ لترتيب البعثرة الداخلية لهؤلاء الذين يعوّلون على ما سأقول، كما لو كانت أسطورة ساحرة في العصور الوسطى تتلبسني كلياً.
“كان يكفي أن تكوني جميلة أكثر من اللازم، أو قبيحة أكثر من المعقول، غير متزوجة أو زوجة لم تنجب، أن تتصرفي بأي طريقة غير مألوفة، لكي تربطي على عمود، وتتركي لألسنة اللهب”.
الساحرات ــ منى شوليه
يذكرني بكِ بعض المرضى، كلنا مرضى، لكنني أعني أولئك الذين يشعرون بوجود عطبٍ يتعذر إصلاحه، ويظلون محرجين من الشكوى، من بقائهم عالقين في مزالق كان يمكن أن تكون عابرةً كسحابة صيف، لكنها ظلّت موشومة على شرودهم الطويل المتقطع، وهم يتذكرون تفصيلة صغيرة، لا يكترث بها عشاقهم المُتعَبون على الأرجح. هم الذين أحبّوا كثيراً، بإسرافٍ شديد لا يتناسب مع استطاعتهم، وعادوا في آخر الليل إلى قصائد مسموعة عن الوحدة وتزجية الوقت، لكن أحداً سواهم لم يستمع إليها بعد كما ينبغي.
تقول امرأة لا أنساها: أصرخ في نوبات غضبي أمام الرجل الذي أحب: لا أحد يحبني، وحين أُخبرها بأنها في تلك اللحظة توبّخ أباها الذي لم يحبها أبدًا، تبكي كمن يعي أنه كان بلا أب طوال عمره، رغم كل الدلائل التي تشير إلى وجوده.
“ألمي الكبير هو أنك لم تعرفني أبداً ولم ترغب في معرفتي يوماً. وما زلت تراني امرأة خفيفة بأفكار حمقاء جاءتها من قراءة روايات حب وقصص في مجلة طهران المصورة. ليتني كنتُ هكذا، لاستطعتُ حينها أن أكون سعيدة”.
ـــمن فروغ فرخزاد إلى والدها
بالمناسبة، انتبهتُ جيداً إلى لحظة الصمت القصيرة تلك، وأنتِ تخبرين أباكِ عن انبهارك بقصة السمكتين لإبراهيم كلستان، كان واضحاً أنكِ تنتظرين منه أي إشارة باهتة للإعجاب بالقصة، ليس بك تحديداً لأن ذلك لم يعد في متناول اليد، كأن في تلك الإشارة طيفٌ بديل عن كل الجسور التي احترقت حبالها الواهنة منذ زمن بعيد. أقول لمرضاي بأننا نأنسُ بالبحث عن فُتات الحُب في كومة هائلة من القش، لأن هذا أقصى ما منحنا إياه الآباء الذين أداروا لنا ظهورهم قبل أن نتعلم المشي باتزان، أو دفعونا بقسوة عن الجرف الذي لم نعرف أبدًا ما الذي ينتظرنا تحته، هكذا تولدت شُبهة التمييز بين الغياب والحُب، بين وجوهنا المحايدة في المرآة وعيون الآخرين التي تضيق بمكر مقصود لتتوسع حدقاتنا، في محاولة لتأويل التماعاتها الغامضة. هكذا نتعلم نسج الأعذار ونحن نتسول المحبة من أولئك الذين تركونا في منتصف البحر، بعيونٍ غارقة بالتوّسل، أولئك الذين حين عادوا لإنقاذنا، كانت عيوننا قد جفّت مثل حفنة أسماكٍ ميتة على الشاطئ.
“كان البحر بداخلي
البحر من حولي ٌإلى الأبد
أي بحر؟ هذا ما كنت غير قادر على تحديده”.
-هنري ميشو
صورتكِ في الخامسة معلقة على الجدار المقابل للوحة الأمير الصغير، والنظرة الجانبية الحزينة لعيني ايغون تشيله الكبيرتين. تبدو نظرتكِ في الصورة متوقدة وماكرة، لكنك على الأرجح كنتِ تفكرين سراً: ما شكل الابتسامة التي ينبغي أن تبدو على وجهي في هذه اللحظة؟ خافتة، عريضة بشفتين مطبقتين أو بأسنان ظاهرة؟ هكذا تشكّلتْ في نهاية الأمر، مزيجاً من البراءة الفجّة والافتعال الساخر دون قصد.
بعد ذلك ظلت إيماءاتك إما مبالغاً فيها، أو غائبة كلياً؛ ميزانٌ مكسور لكنه يقدّم كسره كمصافحة أولى، تُقبل أو تُرفض فوراً دون كثير من التفاوض، هذا على الأقل ما تقوله الارتجافات اللحظية لشفتيكِ قبل تشغيل كاميرا التلفزيون. لا يخفي الماكياج أي شيء يتعلق بتعابير كهذه، تماماً مثلما يبقى صوتكِ منفلتاً من حسم الإيقاع المنضبط. هل حدث ذلك كله بعدما قلّمت الوحدة أظافركِ كلها؟ أم أن الوحدة محصلة حتمية لكل هذه النشازات الصارخة؟
لا أدري أهي الحياة قليلة
أم أكثر مما ينبغي بالنسبة إلي؟
لا أدري أبالكثرة أحسُّ أم بالقلة؟
-فرناندو بيسوا
ثمة تشخيصٌ سيكومتري لقصور الانتباه وفرط الحركة، قصور الذكاء العام، وحِدية المزاج، أفترض إذن أن هنالك من سيتوصل يوماً إلى تسمية لقصور الحيلة، أعني تحديداً تلك الحالة التي تشبه حالة الاعتراف لقسّ، عندما يطلب منكِ أحدهم أيّ تبرير. يبدو الالتفاف على الحقيقة مُرهقاً، لاسيما لكائن متململ مثلك. لا يبدو أنكِ تفهمين حقاً كيف يبتكر حتى أصغر الأطفال أكاذيبهم اليومية، أو تعالي البالغين على تعابير الامتعاض والرغبة الجارفة في ركل مديريهم في العمل على مؤخراتهم المترهلة. لكن هذا هو “الامتثال” الذي لم تتقنيه أبداً، ولا حتى في تنفيذ وصفة معكرونة بحذافيرها. يبهجني أني توصلت لهذا التعبير عبر قراءة المسافر ونور القمر لأنتل سرب، وأن لهذه الحالة تسمية غير موجزة، تنفذ إلى تحت الجلد بتأنٍّ مقصود، كجريمة قتل مُدبّرة.
“أمقتُ البشر الذين يصلون إلى نتائج عملية من الحقائق العلمية، الذين “ينقلون العلم إلى الحياة” كالمهندسين الذين يفبركون أدوية قاتلة للبعوض من مواضيع الكيمياء الرعناء. الأمر معكوس تماماً كما قال غوته: “كل حياة رمادية وخضراء هي الشجرة الذهبية للنظرية”.
المسافر ونور القمر- أنتل سرب
وعدتُ كثيراً من الأطباء والمعلمين بأني سأخصص خمس دقائق يومياً للمِران على عادات جديدة؛ تمارين الإطالة لتخفيف آلام الظهر، تمارين التنفس لتقترب طبقة صوتي من القرار، تمارين النظريات النفسية الحديثة لتصل إلى مُراجعتي ذات السبعة عشر ربيعاً فكرة الاتصال بين الجسد والشعور، أضيفي إليها تمارين اليقظة الذهنية لأتذكر بأن اللحظة الحاضرة هي كل ما أملك، وأن ما مضى وسيأتي، سرابٌ يسلبني صوابي. إلا أن ذلك كله كثير حقاً. حتى عندما جربتُ طريقة جديدة لوضع أحمر الخدود، فوجئت في نهاية اليوم بأنه مرسوم بخطوط حادّة ومكشوفة، توحي بقلة الجهد في مُحاولة دمج اللون وتصحيحه مثلما تفعل امرأة بمزاج رائق. في لحظات كهذه فقط أحسّ بأن عليّ أن أعذر أولئك الذين يلقون باللوم على كل الأسباب الخارجية لعثراتهم الفاقعة، وينتظرون مُخلّصاً ينتزعهم من أنفسهم دون أي جهد يُذكر.
“جرب مرة أخرى
أن يرتقي الدرج الكبير.
لم يستمر.
نزل من جديد
متكئاً على تعبه”.
-يانيس ريتسوس
وعدتكِ أن أتوقف عن إقفال صندوق الأحكام عليكِ، وها أنذا أخفق مجدداً مثل من لم ينجح أبداً في سد أي باب. لا أعرف كيف يمكن للعالم أن يكون مكاناً آمناً حقاً، لكنني على الأقل أحاول الميل باتجاهك كلما استطعت. أحاول مثلاً أن أنصت لثرثرتكِ الليلية الخارجة عن السياق مثلما أنصت لوحيدٍ يقرر أن يشاركني كتاباته التي يحبها رغم رداءتها الواضحة، وأن أهدهد شعوري بالعار عندما تخطئين كل مرة في اختيار الطرق الأقصر لوجهاتك اليومية في مسقط، ويُلقي الجميع نكاتاً جارحة حول ذلك. حدث هذا في وقتٍ متأخر جداً، لكنه كل ما أريد.
لهذا على الأرجح سأكون بانتظارك الليلة، ربما نُخصص عشر دقائق لترتيب المكان الجديد معاً، حتى لو آلمكِ عدم وجود مناص من الفوضى، ربما نقرأ ترجمة رديئة لكفافيس للمرة المئة، ونُعيد الاستماع لواحدة من أشهر أغنيات فيروز دون أن نتوقف كثيراً عند المقطع الذي تقول فيه: واللي ذكر كل الناس بالآخر ذكرني.
*نص: فاطمة إحسان