هل تشمين الفكرة هذه؟
لطالما كانت الرائحةُ هي التي تربطُ بيني وبين كافةِ الأمور الأخرى، من كلِّ وجوهها. كانت الرائحةُ هي التي تحملني على بساطِ يدها، وتُعرِّفني بأبعاد الأمور. كانت الرائحةُ من لمست لي الحقيقةَ عندما كانت يدايَ لا تُبصرها، بحاسَّةٍ عمياء. كنتُ أتألم من رائحةٍ مارةٍ بما يلمسُ لي الأماكن التي تبعثرت فيها رياحي قديمًا، ولم يسعني جمعها؛ بتفاهةٍ كنتُ أرغبُ في جمعِ رياحٍ براحةِ كفي. كنتُ أحنُّ من رائحةٍ صباحًا تفتح كل المخابز التي يتجمع لها الناس مدركين أن بيوتهم المليئة خضارًا وفاكهة، جوعى دون خبزها. لكن لا شيء منها يشبه رائحة خبز أمي. كنتُ أبتهجُ أمامَ رائحةٍ، بصفوٍ مرٍّ لا أعرف بهجةً عدا رائحةِ العشب بعد المطر، رائحة رأس طفل لم يعرف الحياة بروائحها التي تضج برأسه الذي يفوح بالبراءة بعد. كنت أعرفُ نفسي، أعرف ما يؤثرُ بي بأصداءٍ عديدة، مثل وسيلةٍ أشمها.
قصة من منافٍ محتملة
خلف القضبان الحديدية لسجين قد تم انتهاك إنسانيته في العدم، هناك شيء يئن كفريسة، هناك حياة أسقطت رايتها كبلدٍ تم احتلاله، هناك غموضٌ في منتصف وضوح القدر، وهناك القفزات المتتالية لئلا يشعر أن هناك من يمسك بحريةٍ قدميه.
في حلق فتاة يعاملها الجميع كساقطة، هناك الصرخات التي لم تجد طريقها إلى الصوت، هناك التنهّدات التي استصعب القفص الصدري تكرارها، هناك الماضي والحاضر والمستقبل يتصارعون على من سيهينها أكثر. لم تكن مُكبّلة كذاك السجين ولكنها كانت صامتة، كأن أحدهم حشر العالم أجمع في حلقها ومضى. صامته وكأن نبرة صوتها قد سرقها العدم. كانت مُكبّلة بالمعنى الداخلي للصمت.
في غرفة امرأه قتلت نفسها، هناك الأرضية المبللة بآثار عدم القدرة على فهم الذات، هناك على سريرها محبوسة الليال التي أسرت عيناها على منظر لا نهائي من الألم. في نافذة غرفتها هناك عازل يصد السعادات التي تخترق حقيقة المشاعر الأمية، التي تستصعبُ التعريفَ صوتًا وصورة. نافذة غرفتها تشبه اللوحة التي تكون في الغرفة، ولكن كل حكايتها في إطارين خشبيين يمنعانها من الانسلال إلى الغرفة، من الانتشار في الغرفة كشبكة عنكبوتية.
لا أحد يعرف كيف ينبع الأمر من الوجود الحقيقي، من النهر ذاته، كيف يواجه النبع سرعة الجريان، لا أحد يعرف كيف تغلي البراكين من داخلها متأهبة للانفجار. الأشياء تبدو دَارِجَةً من ناحية واحدة، لكن من الجوهر الذي تتشكل وتخرج منه، إنها لا تُحتمل.. الأشياء تبدو صعبة التصديق عندما تكون غير مرئية، لكن عندما يُنتهك جوهرها؛ ليس هناك جسد يستطيع إنكارها، لا توجد عينٌ تستطيع أن تخفي التصدّيق في بؤرتها، لكن الكلمات تفعل.
طوبان الصمت تُبنى في عجز اللغة
بينما تزدحم الأمنياتُ في الرمق الأخير من الكلمة، وتلتحمُ الحروف في كل ما يؤدي إلى الصمت، لا شيء هنا ليلم شتاتي، لا واجهة أخرى لتضم عروقي. بينما أركن نفسي كآخر مساء شتوي في ديسمبر، لا يمكنني سماع صوت عود الثقاب وهو يشعل نيرانًا في غرفة باردة تفتقر معنى الدفء. في وقت تتهالك الأمواج به وترقب، تضيع الموانئ التي تنقذ آخر سفينة ضائعه في المحيط.
أعرج في طريق منسيّ من قِبل الرحالة، ولا أحد يعرفه كي يجدني؛ حتى أن المشردون وجدوا طريقهم.
أعرج وأتعثر في حجارة التساؤلات التي تتفاقم كي تأكل أجوبتي المتبقية، بقيت وحُصرت داخل طريق يشبه الاستمرارية في بناء شيء وهمي مؤديًا للعدم. كأنني أسفل طوبان تُبنى فوقي، طوبان التساؤلات العمياء التي تخطف الرؤية. أعرج، ولا يسعني أن أدرك إلى أي مدى تستطيع الأجساد أن تنكمش وتضيع فيه؟ إلى أي مدى لا يمكن لأحد معرفة الوهن الذي تصله زوايا الجلد حين تلم بقايا عجزها؟
*ريناد الرشيدي – كاتبة من السعودية