“أكتبُ باليدِ التي هَجَرتني”
في ذكرى الشاعر سركون بولص، الذي غادرنا في مثل هذا اليوم
22 أكتوبر 2007 ، متجهًا إلى الأسطورة، تاركًا لنا أبعاده التي نستعرض شيئًا منها هنا، أبعادُ الشاعر والمترجم.
الشاعرُ وحيٌ
قصيدة: آلهة الزقوم
جئتُ إليكَ من هناك
نهايةُ العام:
عام النهايات
الطقسُ والغربان،
ضِِيقٌ في نَفَسي
من كثرة التدخين، علّةٌ ما
(وحشةٌ
قلقٌ
ألَمٌ دفين)
أطاحتْ بي لأطوفَ في أنحاء البلدة المقفرة
و أقطعَ حول تلك الزاوية بالذات
حيثُ لاقاني وجهاً لوجه
قبلَ هبوط الليل:
صديقي
القَصّاصُ هوَ بعينهِ
لكنّ شيئاً أفرغَ عينيه من الضياء
صديقي القديمُ الفَكِهُ
هوَ بذاتهِ
لكنّ شيئاً قَلَبَ قَسَماتِهِ
من الداخل
الحواجبُ بيضاء
سوداءُ هي الأسنان
إذا أبتسم (لا فرَحاً ) بدا كأنّهُ يبكي
ما وراءَ الحزن
كما في صورة غير مُحَمَّضة
بأقلّ نفخةٍ تنهار . . .
“أمريكا بالنسبة لي هي مكان عيش، إقامة، وليست وطناً، لأنك لا تستطيع أن تملك وطناً مرتين. وفي نفس الوقت، ليس بمستطاعك أن تعود إلى وطنك ثانية. اللغة العربية، هي الحبل السري الذي يربطني بشعبي وبتاريخي، هي الوطن الحقيقي الوحيد الذي أملك.”
— سركون بولص
الشاعرُ مرآة
قصيدة حُب – الشاعر الأمريكي (جون لوغان) – ترجمة: سركون بولص
لم تجيئي ليلةَ الأمس،
وكم طال غيابكِ عليّ .
أشتاق أن أجدكِ بين ذراعيَّ
الشائختين،الأرضيّتين
ثانيةً (سيمياؤك قادرة أن تحيل طينتي
إلى جلد).
أشتاق أن أستدير فأرقب ثانيةً
من مكاني شبه الخفيّ
سفوح وجهكِ الضائعة، الجميلة
مساقِطَهُ، والورقةَ السوداء، الثرّة
لكلّ هُدب
وحجارة أسنانك الطازجة التي لمّعها ساحلُ البحر.
أريد أن أصغي إليكِ تتنفسين في طريقكِ إلى النوم
(فنحن، بفننا الإنسانيّ
نقلّد النائم حتى نحلم)
أريد أن أشمّ حدائق شعركِ العشبية المظلمة –
أن ألمس الخصلة الخفيفة
التي : تنحدر على جبينكِ العالي
عندما تغسلينها، فما
أبدعها.
أريد أن أسمعَ
ريح آهتكِ الخفيفة، الطويلة.
لكنني الليلة ثانيةً أعرف أنكِ لن تجيئي.
لن أشعر أبداً مرة أخرى
بسَكينتكِ الرقيقة، النائمة التي طالما كنت أستمدُّ منها
قُوتي، وأغذي بها قلبي الإنساني.
لأنني في آخر مرة
عندما دنوتُ منكِ بينما تجلسين في السرير
وتتحدثين، أمسكتِ بكلتا يدي
في يديك، وصالبْتهما برقةٍ على صدري.
مُتُّ هكذا وأنا أقلّد الأموات.
“يمثل بولص حلقة وصل بين جيلي الستينات والسبعينات في الشعر العربي. وهي تسعى للتعبير عن اليومي الخالص، والأرضي المنفك عن أي أفكار ميتافيزيقية، لكنها تغور عميقًا للبحث عن معنى للوجود ما أمكنها ذلك”
— فخري صالح
الشاعرُ رؤيا
من مقالة بعنوان: عن الشعر والذاكرة – سركون بولص
يتناول الشاعر الزمن وهو ينسلّ من بين أصابعه قطرة فقطرة، ثم يتبخّر حتى يصبح عدماً. في إحدى قصائده الغزلية، يقول غالب وهو من الشعراء المهمين الذين يكتبون بالأردية في القرن 19 واشتهر بشعر الغول “إن القطرة التي لا تصير نهراً تتشرّبها الرمال”.
ومرة تلو المرة، عندما أكتب، أكتشف أنني لا أتذكّر الماضي ذاته، كما لا أتذكّر شخصاً أو مكاناً أو مشهداً أو صوتاً أو أغنية بعينها، إنما أتذكّر أولاً وقبل كل شيء، كلمات. الكلمات وصداها الذي يتردد في ذاكرتي. الكلمات التي تقبع في ذاكرة معينة، تحمل أصداء زمن ومكان محدّدين. لكن المشكلة بالنسبة إلى الشاعر، ليست في الأساس مشكلة مفردات، إنما كيف يستطيع الشاعر تناول المفردات القديمة وصوغها في سياقات جديدة، في تراكيب مُبتَدعة تتحدّث عن حاضرنا وتلقي الضوء على ما يجري حالياً. لذلك فإن وظيفة الذاكرة ليست بسيطة: إذ لا يتعين على الشاعر أن يعرف الكلمات ومعانيها فحسب، إنما عليه أيضاً أن ينسى السياقات الكامنة فيها.
بمحض إرادتي أم رغماً عني، فأنا لا أتوقف عن الذهاب إلى الماضي والعودة منه. إن الشعر وسيلة عظيمة للتنقيب في المناطق المخفية عن الحياة التي عاشها الشاعر، وفي المناطق الظليلة التي تقبع فيها اكتشافات لا حصر لها بانتظارك، كلّ تلك الأشياء التي كوّنتك وجعلتك من أنت، والأماكن والأزمنة والظروف التي عشت فيها، جميع الأشياء التي شكّلتك. لذلك، فإن عملية العودة إلى الذاكرة أمر في غاية الأهمية بالنسبة إليّ، العودة إلى تلك التفاصيل التي لا تقبع في رأس أحد سواي. إذن، فإن الطفولة تشكّل مصدراً سحرياً يكمن بين الظلّ والضوء، يثوي عميقاً في الماضي، يمكن استدعاؤه دائماً وإلباسه ظلالاً جديدة قد لا تكون موجودة إلاّ في عالم الأحلام.
“سركون بولص أحد ممثلي القوة الأسطورية التي تعنيها بلاد نمرود والماء وجلجامش. منذ الستينات كلما تقابلنا كأنه يريد أن يقول لي شيئاً، ولم يقله. كذلك حين عدنا والتقينا في أوروبا الثمانينات، أراد أن يقول لي شيئاً، همّت به عيناه. ولم يقله.”
— أنسي الحاج
الشاعرُ لوحة
قصيدة: شاي مع مؤيد الراوي في مقهى تركي ببرلين بعد سقوط الجدار
“اللَّيالي مثقوبة بالطلقاتِ الطائشة
قُبلَتُكِ نوعٌ من التطواف
وحيثُ تحلِّق الغربان
بهذا البطء الاستراتيجي
لا بُدَّ أن تكون هُناكَ بقايا معركةٍ خاسرة.”