إنّ للأبديّة خشخشة الأوراق المكومة – ريناد رشيد

أشخاص:
بلدان:

بحيرة ظلال أبريل

في الأول من أبريل: تقفُ عقارب الساعة والوقت يتحرك، أفقد ساعة وأكسب أخرى، أعرف دقيقة وأجهل التي تعقبها، أطارد الدقيقة الـ٥٩ من كل ساعة وأفقد أثر الدقيقة الـ٦٠

الوقت يطاردني ويطارد ذاته، ولا أعرف كيف تختبئ البراهين الزمانية من نفسها.

في الثاني من أبريل: أشعر على عنقي بهواءٍ يوثّق أنفاس الموتى، وتختلس أنفي رائحة الأقحوان الذابل، تصدحُ في أذنيّ نبراتُ الأبكم، وأُبصر بعينيّ منظور الأعمى. 

في الثالث من أبريل: صوت المطر الحزين على الأرض الجدباء، بذور الأزهار في تربةٌ رملية، طائر مهاجر في سماءٍ استوائية. موت يرقة قبل تحليقها.

في الرابع من أبريل: إنه البريق الذي يلمع في كل زاوية، البريق الذي يصرخ بك بعيدًا لمدى انطفائك. ثمَّة عندليبٌ يغني عند كل بداية متوسلاً عدم انطفائها، متوسلاً بالحرارة والاتقاد السابق لهذا الانطفاء البارد. 

في الخامس من أبريل: أنا تلك الضواحي القديمة التي لا يمر بها أحد حتى صدفةً، الأينية الضائعة في ٧٩ معجم، أنا العملة المعدنية المرمية في بئرٍ يصل عمقه إلى ١٥٠ مترًا لتراهن على أمنية أبعد من كل هذا العمق. أنا الدمعة التي تنزل بعد تجاعيد ابتسامة تداري الوجع، ولا يمكنك أن تجدني في حروف أسمي.

في السادس من أبريل: القدر يهتف بسيموفنيّة صاخبة وتهدأ في لحظة مفاجئة، العازف البارع لا يعرف الأنماط التي تخرج كل هذا الصخب؛ واضعًا كلا يديه على أذنيه مستنشدًا بعدم انشقاق طبلة أذنيه.

في السابع من أبريل: مجاعة داخلية لا يلجمها حقل قمح كامل، تلتهم كل شيء فتسلب الروح من داخلها إلى ظمأ شديد، ظمأ البحث عن ارتواء طويل، ظمأ يعقب الشبع المؤلم.


رصاصةٌ في صدرِ الكلمة

كان الوقت يفصلُ بين الرصاصة وصدره المُتلقي؛ ليتأهّب من أجل رثاءٍ واحد، لحظة خوف واحدة، إنقاذٍ محتملٍ يصرفُ بهجةَ الموتِ عنه، اتجاهٍ آخرٍ كيلا تنغرس المساراتُ في صدره.

رصاصة واحدة، كافية كي يعرف المرء كيف تتجمّد الكلمة في النطق، كافية كي تأكل الديدان ما يتبقى. كافية كي تُسقط الهاوية نفسها، وكافية كي أعرف، أعرف كيف تفقده الكلمات، أعرف كيف ضاع لسانه من يد الصوت. كانت رصاصة واحدة كافية كي أعرف لماذا يدفن الناس أمنياتهم. ولأحرث ما تزرعه لحظات الصمت التي تعيش في حلق الأمكنة، وتخنقُ جُمَلَها.


رسالة تدّمر نفسها

كنت قد جمعت ما عزلته سنينك الأخيرة من عطاء وأخذت تتحتمه منحدرات ميّتة، قد جررت يدين تتعبّد أمام بدايات الموت بمفاصل متلهفةٍ إلى معبدٍ آخر يلمس لها ما تتعنّوَنُ به ثلاجاتُ الموتى. لقد تركت فساحة الأراضي التي لا تدلها القنابل، ولجأت إلى الطريقة التي شرّدتك بها الأراضي التي حفظت دخانها. 

كنت قد حفظت الأفق في عيونٍ من رماد؛ لأنك شاهدت كل شيء يحترق بعينين سوداوينِ يستقبلان الموت من تلك الطرق التي تسير إلينا. 

علمتني أن القلوب التي تتحطمُ في المساء، كانت تحاولُ أن تجد وسيلة للتداعي، علمتني أن مَن يُعلن حداده صباحًا لا يشيب. وأن دائمًا؛ كانت هي الوعود مَن تنقض نفسها.


إلى الكارثة الأكبر

تعصفُ بحقول صمتي رياح من القصائد عند كل مشهد مؤلم يستدرج روحي إلى الحداد الذي يسبب الخلل في موازين البهجة. إذْ لمحت ذلك السهل الذي يمتدُ لمدىً يردد صدى لأنين الحيوانات العالقة، بلحظة ألمس نبرة الصدى المتجرحة، وأفقد صوتي. بلحظة أستديرُ لبقايا الصمت الذي يضرب بذرة روحي من عمقها، ثم أُدرك أنني لا أعرف أرضًا أخرى عدا هذه الحقول كي أرسل إليها جذوري. 

كل الأراضي تشرّد روحي، كل الأراضي تنهبُ كل ما يؤثر بروحي ببهجة. عرفتُ في طفولتي أن الحيوانات ترتعب وتضجُ بالمدن حين حدوث كارثة كزلزال، الآن أبلغ من المعرفة ما يجعلني أخاف كل صوتٍ يُطلق ثورة للحيوانات، إذ كان عابثًا بمعرفتي. عرفتُ أن المخاوف كانت هي الكارثة الأكبر، كانت تصدني عن الثوران الحقيقي وتنسيني إياه، ولم أدرك إلا بعدما ضجت المخاوف في حياتي كزلزال.


لم أنت حزينة؟

كنت تكتب لي على كل هامش، تهمس لي في كل فراغ ترتمي به نبرة الصوت: “لِمَ أنتِ حزينة؟”

ولأنني ممتلئة، لأنني أعرف أنك لا تسألني إلا لأنك لمحتَ فيضًا غير مرئيٍ من الكلمات، الكلمات التي لا يسعني أن أبوحها لك، لأنني ممتلئة، وأخاف أن يعيش بي الفراغ إن بُحتْ.

لكنك لا تفهم، وتواصل الهمس والكتابة: “لِمَ أنتِ حزينة؟” وأجهشتُ بالبكاء، عندها أضحت علامة استفهامك تعجبًا، خشيةَ أن تعرف بأنّ جدراني صلبة، أصلب من أن يكون مفتاحها سؤالاً عن سبب صلابتها.

أجهشتُ بالبكاء لأنني أدركت أن كل ما يقودنا إلى حقيقتنا، يقودنا إلى صمتنا المعذّب. 

كنتُ أقول أن الوقت هو الجزء الوحيد الذي يدمرّ ما يمكننا معالجته، أن الزمان مثل الرصاصة ما إن توجهه إلى عين المكان.  

مجددًا في ليلة عمياء، لا يدركها الضوء: “لِمَ أنت حزينة؟”

وأجيبك أخيرًا: “لأن كل هذه الأوراق التي مزّقتها سوف تلاحقني، لأن كل شيء أحرقته يخنقني رماده. لأن كل السلام الذي أكنّه قادر على أن يحوّلني إلى دمية. قادر أن يتحوّل إلى حرب تنهش عظامي وتعبد دمي، ولأنك أعزّ من أن أقحمك في كل هذا”.

قلت لي أنه لا يسعك العيش دون أن تعرف أنّي أتنفس بحريّة هنا، وصدقتك.

استيقظتُ صباح اليوم التالي وأنا أتلو الإيمان بكلماتك في صدري كصلوات، زرعتُ نبتة، سقيتها بتصديق ألا أحد يسعه العيش دون التنفس بحريّة هنا. 

وأنا الآن هنا، مع سؤالك عن أسباب التداعي المفاجئ في منتصف الأيام، مع النبتة التي أدركت الحياة بتصديقك، مع أملي الوحيد ألا يسألني أحد عداك عن الحزن الكامن في عظامي، أعرف أنني أصدّقك بكامل أكاذيبي، وأنني أتعرّى لك رغم يقينك بأنّي حزينة.

ريناد رشيد

زر الذهاب إلى الأعلى