أيَّتُها الحقول الجافَّة تعالي لأهبكِ خضرة دمي – رياض الصالح الحسين

أشخاص:
بلدان:

غرفة الشاعر

يفتح بابَ الكلماتِ و يدخلُ بخطىً خائفةٍ
في أنحاءِ الغرفةِ
بعض قصائد ذابلة
كلمات تتمدد فوق الكرسيّ
و أخرى تتعلّق بالمشجب
سنبلة تهرب من بين أصابعه
و طيور تقتحم الشفتين
يرى عشبًا ينبت في المكتبةِ المهملةِ
و نبعًا ينبثق من الحائط
بعد قليل سوف يداهمه الليل بأقمار و كوابيس
تداهمه أشجار الغابة
و رمال الشاطئ
و حصى الأنهار
و آبار فارغة
يملؤها بحروف سوداء
ماذا يأخذ من جثث الأيام
و ماذا يترك
غير قصائد ذابلة
و غبار الكلمات؟
و بعد قليل
سوف يداهمه الشرطيّ
ليسأله عن جمل غامضةٍ
و يحذره من استعمال “القُبلة” و “القنبلة”
و يمضي..
هو ذا الشاعر
يفتح نافذة القلبْ
يغلق عينيه
و يحلم بقصيدة حبْ


الذئب

الذئب الذي افترسني
تركني وحيدًا في الغابة
مَن يغطي جثتي بالأعشاب
بأوراق الأشجار اليابسة
بقليل من تراب؟
مَن يقرأ الفاتحة على روحي
مَن يغمض عيني الهلعتين
مَن يضع على صدري
صليبًا من أزهار؟
الذئب الذي افترسني
صار أنا
أخذ وجهي الشاحب
و شفتيّ المرتجفتين
و قلبي الطيّب
و ظل محتفظًا بأنيابه
أنا الذئب
ذو اليد البيضاء
أدور في المدينة و أعوي
أنا الذي قتل الصياد في الغابة
أنا الصياد
احذروا حبي
و احذروا أنيابي.


لا أحد

فتحتُ الباب
لم يدخله أحد
لا ضيف، لا امرأة، لا شرطي


فتحتُ النوافذ
لم يدخلها أحد
لا هواء، لا فراشة، لا أغنية تائهة


فتحت قلبي
لم يدخله أحد
لا نهر، لا رصاصة، لا طير


و ها أنذا الآن
مغلقًا و وحيدًا
أنادي
تعالي


ذات يوم فوق سرير شاسع

للمرَّة الألف أرجوكِ لا تذهبي
للمرَّة الألف آخذكِ بيديَّ
و أركض في حقول الألغام
في حقول الدم
في حقول الحنطة
و أرجوكِ لا تذهبي
لا تذهبي و في عينيكِ غزالة مذبوحة
لا تذهبي و تحت جلدك يصفّر الموتى بشفاههم المعطَّلة
لا تذهبي يا عزيزتي لا تذهبي
تعالي و قبِّليني قبل أن تذبح شفتيكِ المرتعشتين
سكاكينهم الطويلة
تعالي لنثرثر بسهولة و ألم
تعالي لنتحدَّث مثلاً:
عن الديدان التي تغزو السنابل
عن المعادن التي تقزقز أصابع العمَّال بطريقة عجيبة
حدِّثيني عن السهول ذات الخضرة الضارية
عن الوعول التي تقفز بسعادة بالغة
و هي تقضم عشب الفرح بحريَّة لا تشبه إلاَّ قلبي
حين يخفق بأعلامه السوداء
فوق ثكنات المحاربين الذين يحلمون فقط

بثلاثة أمتار من الراحة

بدوش ماء بارد

بامرأة تغنِّي بصوت حزين
و طفلة تقول لكل رجل تصادفه: أريد بابا
حدِّثيني عن الدنيا و قارَّاتها الخمس
و حدِّثيني فيما بعد عن الزمن
و حدِّثيني عن العصور جميعًا
ابتداءً من العصر الحجري القاتل
و انتهاءً بعصرنا السفَّاح
حدِّثيني عن السفَّاحين المنتشرين في:
السفارات، الأزقَّة، دور السينما، المطابخ، علب الكبريت،
زجاجات مياه بقين، أحذية باتا، ولاَّعات رونسون، شركة ميكروفيلم، جوارب أوغاريت…
حدِّثيني لأحبَّكِ
حدِّثيني لأحبَّكِ
“أحبُّكِ”


هذا ما يقوله السنديان للمطرقة.
“أحبُّكِ”
لي نهار في المعصية
و لي أزهار في الطرقات
“أحبُّكِ”
هذا ما أقوله أنا
هذا ما يقوله الرجل الذي من خلفه النوافذ تهوي
و من تحته الأرض تئنُّ
“أحبُّكِ”
لي ثلوج في جميع المدافئ
و لي وحل في جميع الشتاءات
لي الحائط الكتيم
الأصفاد الثقيلة
الزمن البطيء
و لي الزهر الذي يتدفَّق من رئتيكِ
تنفَّسي يا حبيبتي تنفَّسي
فهوذا الهواء ينبح في الأزقَّة بصوته البليد
هوذا الدم يسيل فوق لحم الشرفات
و أنا ملتفٌّ بقلبي
و قلبي يقرع أجراس الأجساد الرثَّة
أيَّتُها الأجساد الرثَّة المغسولة بالحبّ و عصير البرتقال
أيَّتُها الأشجار الصاخبة
المغلَّفة بالأيقونات و صور القدِّيسين
أيَّتُها الأحجار، المقابض، الأسطحة، الأحذية، الأعلام، القواميس،
الرجال، النساء، القطط، الفؤوس، الهراوات، الشياطين…
تعالوا و استمعوا إلى خرير الإرهاب في الشوارع
تعالوا إليَّ جميعًا
تعالوا إليَّ بدون استثناء

أيَّتُها المرأة تعالي لأضمَّكِ

أيُّها الطفل تعال لأقصَّ عليك حكاية الذئب و الأرنب

أيُّها العاري تعال لأكسوك بالقبلات

أيَّتُها الحقول الجافَّة تعالي لأهبكِ خضرة دمي

أيَّتُها الشمس لماذا ترتعشين من البرد
و حطب قلبي مهيّأ للاشتعال؟
و يا أيَّتُها الأسئلة
يا أيَّتُها الأسئلة
تعالي لنكسر معًا زجاج النوافذ
التي تحجب عنَّا نضارة الصراخ
سأسأل الصبايا:
لماذا أنتنَّ مكتئبات
و موسيقى ديميس روسوس معبَّأة في زجاجات الكازوز
سأسأل الجائعين:
لماذا لا تأكلون أطنان التفَّاح
التي يهدرها الإمبرياليّون في البحر يوميًّا؟
سأسأل أشجار الزيتون في ضواحي دمشق:
من اختلس أوراقك في الليل
و جعل منها وسادةً للسفَّاحين؟
سأسأل السفَّاحين عن الأشجار
الأشجار عن الشوارع
الشوارع عن الاضطهاد
الاضطهاد عن حبيبتي
و أقول لحبيبتي
أقول لحبيبتي التي تبيع الجنارك و المانجة في باب توما:
إنَّني مرهق كثعبان ابتلع بيضة
و أقول لحبيبتي
و أنا أصغي إلى زقزقة الموتى في التوابيت
إلى هديل الحرب في البلاد:
تعالي لنمشي و نتذكَّر كيف كان الملوك ينتحرون
لأنَّ عينين حافيتين انطفأتا
لأنَّ قلبًا وسيمًا أضاء
تعالي لنتفاءل بذات يوم فوق سرير شاسع
ذات يوم فوق سرير شاسع، حيث:
العصافير تقصف الطائرات
الشهداء يضعون القتلة على الكراسي الكهربائيَّة
الزهور تسنُّ للرصاص شفرات المقاصل
والحريَّة
تغتصب
السجون
ذات يوم فوق سرير شاسع
أفتح ثغرة في لحمكِ الذي يحترق أيَّتُها الأرض
وأقذف إليكِ بدماري.


*نص: رياض الصالح الحسين
*من: رياض الصالح الحسين: الأعمال الكاملة

زر الذهاب إلى الأعلى