كورونا، الثقب الأسود لوجودنا – عادل خزام

لأولِ مرةٍ، أسحبُ يدكِ من يدي، لنتحد

أشخاص:
بلدان:

إنها الأرضُ العجوزُ

تتدحرجُ مثل جرّة فخّار على منحدر

وقريبًا ستصطدمُ بالصخرة الناتئة

***

لكننا لن نموت

نتباعدُ، لكن لا نفترق

نبكي على الأحبة إن غادروا،

وداعًا..

ونفرحُ.

أطفالنا آتون

يولدون صلعان مثل أقمار صغيرة

ويضيئون حزن هذا الكوكب

***

وداعًا…

لبس الموت حذاء عدّاء

وصار يركض أسرع من أحلامنا

لكنه لا يقوى مثلنا على النفس الطويل

وجاء الخوف

مندسًا في لعابِ غيمةٍ داكنةٍ

لكنَّ مطرَهُ الأسودُ

اختلطَ بدموعِ الممرضات

والأرواح التي صعدت للسماء

رأيناها طائرات ورقية أفلتتها يد أصحابها

ها نحن نلوح لها من وراء النوافذ

اذهبي بسلام،

لا محالة سيعم السلام

***

انظري..

في هذه الحرب

الطبيب هو الجنرال. ببزّة بيضاء

وبمسدس هو الحقنة

الشوارع الخالية،

ميادين فورمولا لسيارات الإسعاف

والدبابات تطلق قنابل الكلور على الدكاكين المغلقة

ونحن

مثل زهر عباد الشمس

نذهب إلى عزلة الليل عند الثامنة مساء

وفيها نقلّب صوت سؤالنا المخنوق

ماذا يجري؟

***

إنها الأرضُ العجوزُ

تتدحرجُ مثل كرة كريستال على منحدر

وقريبًا ستصطدمُ بالصخرة

لأول مرة،

المستشفى مطار المغادرين إلى الآخرة

السوبرماركت متحف الجوع

لا أعياد ميلاد في الليموزين الطويل

لا مصلين معًا

كأن على الفرد أن يواجه الله وحيدًا

كأنما هذا

مجرد إحماء ليوم قيامة قادم

***

بشرٌ على الشرفات يغنون: المجد للحياة

قباطنة طائرات يتعرفون مجددا على اليابسة

قصص حب في عنابر العزل، وقصص خيانات

مقابر ومحارق لجثث جماعية ملفوفة بالبلاستيك

ماذا يجري؟

هل الأرض العجوز تنفضُ فستانها البالي

هل تزفها الأشجار إلى نهر البدايات

لتحبل بالحقيقة وتُرضع الأقلام حبر نهديها الضامرين

أم أنهم السماسرة، أشعلوا النار في الغابة

وناموا غافلين عن تطاير شررها؟

***

لأول مرة..

أسحبُ يدَك من يدي، لنتحد

تلثّم، أنت حقيقيٌّ بقناعك، لا بوجهك

وأنتِ يا حبيبتي

مدي يد القفاز، سأضع خاتم الحب في إصبعه

الشرطة مشغولون يحمّمون المدينة بالصابون

اللصوص محبوسون في فكرة التوبة

وأنتِ تسألينني

لماذا لم تتنبأ مذيعة الطقس بعاصفة الفراغ هذه

وأنا أجيبك نعم

نعم فصلنا الدين عن السياسة

والآن علينا أن نفصل العلم عن السياسة

وغدا

علينا أن نفصل النار عن السياسة

من أجل هذه الأرض العجوز

الأرض التي انتظرت مليار سنة، بفستان فرح

ولم يتم زفافها

الأرض التي كلما ذهبت إلى المرحاض

سقطت حضارة، وقامت غيرها

والبشر الضعفاء

آكلوا الغزال والحمامة والجراد والكلب

حتى لو استمعوا لدرس الحكمة هذا

لن يفطنوه

ومآلهم في النهاية أن يأكلوا بعضهم

***

ببدلة أنيقة استقبلتُ العام 2020

مفتونًا بشكله الرقمي وهو يشبه

وزّتين تسبحان بأمن في بحيرة الزمن

لكني حين قفزت في قطاره السريع، توقف

وتبع ذلك

شللٌ في أجنحة الطائرات

موتٌ وهمي لأبطال السينما الوهميين

هروبٌ جماعي للاعبي الدوري الإنجليزي

ولا أحد يريد فانيلاتهم المرمية على الأرض

وفي اليونان

امرأة تلدُ طفلا ميتا على قبر سقراط الفيلسوف

وفي الصين الحمراء

مزارعٌ يفتح ضريح كونفوشيوس، ويتركه نهبا للخفافيش

ولا أحد في أميركا إلا وحمل البندقية

إنه موسم صيد المرايا

إنه الفراغ في داخلك، يلتقي بالفراغ خارجك

ويتعارفان كمامة بكمامة

وأنتِ يا حبيبتي

تسلّقي سور مدرسة الخوف، تجديني خارجا بانتظارك

وأنت يا جدي الطاعن في التسعين

كُح كما كنت تكحُّ يوميا،

يطربني إيقاع رئتيك المعطوبتين

***

لم يبق لنا سوى ظلالنا

ووجوه أصدقاءٍ نتحدثُ مع صورهم

إنها عطلة الحواس نقضيها على شاشة الهاتف

إنها الأرض العجوز

ملّت من الجلوس على بيضها الفاسد

بيضها الذي ظنه العلماء، كريات الدم البيضاء

وظنه جنرالات الحرب، كريات الدم الحمراء

فاختلفا

ونحن سقطنا ضحايا العمى اللوني هذا

لم نعد نميز رجال الأعمال عن صيادي السمك

ولا المدرسات، عن بائعات الساعات المقلّدة

فُتحت السجون،

لأن البيوت صارت سجون أصحابها

أغلقت المدارس،

ونواطيرها الفقراء فرّوا إلى قراهم البعيدة

ثم رأينا الطب، وهو رجلٌ ثريٌ في العادة

يُخرج لنا جيبيه الفارغين من بنطلونه الحرير

أي كذبة إذن، نصدق

فم المذيعة، أم نهديها السليكون؟

رؤساء العالم المتقدم، أم أمهاتنا؟

الكل يتحدث عن فايروس قاتل

عن العبث الكوني وقد استشرى

وعن المراهقة المتأخرة لملك الموت

***

ماتت أرقام كثيرة..

هكذا يقول عدّاد المرض اليومي

بكت إيطاليا، واختفى كازانوفا من شوارعها

كأن القدر

يلعب الشطرنج ضد الريح، كي يهزم الماء

كأن التاريخ المنسي، وجد نعليه الضائعين

وقرر أن يمشي باتجاهنا

نحن الجالسون في أمان الحضارة

المصفقون لسيرك الخلود

كنا نخاف لو عطس الجبل، بركانه

صرنا نخاف لو سال لعاب قرد في المختبر

***

وأنا، لا زلتُ في نظر الأطباء، بطاقة صرّاف آلي

وفي نظر المحامين، تهمة ملفّقة

أتلقى عروض التأمين على حياتي، أكثر من سياراتي

كيف إذن سيتركونني أموت بذرة غبار؟

من سيبقى ليحضر عرس الأرض بعدي

الأرض، بالونة الهيليوم وقد انفلتت من يد طفلها

الأرض

بطيخة خضراء في يد لاعب كرة سلة مبتدئ

والكل بانتظار أن يسددها

في الثقب الأسود لوجودنا

***

إنه عام كورونا

لا حركة تظهر في كاميرات مراقبة العالم

الملائكة تجمعوا على أسطح العمارات بلا عمل

باصات المدارس المهجورة في الباحات،

اقتحمتها قرود الغابة

***

نحن لا نرى الموت

لكن نسمع صوته صاخبا في هذا الصمت

***

يفتش الشعراء عن الحقيقة في أدراجهم

تقول أمي: عليك بالعسل والليمون

لا أحتمل أن أراك مصابا مثل ملكة بريطانيا

صديقي خوليو المدريدي خسر خالاته الثلاث

سمعنا رعدا حزينا في سماء أوروبا

وغيمة بعد غيمة

لوّن الرسام السماء بأجنحة الغربان

ودمعة بعد دمعة

ركّب الموزع الموسيقي لحنا فوضويا وسماه: زعيق الأمل

ها هي البشرية تضحك على أساها

ها هي أحصنة السباق من الشرق والغرب

اصطدمت عند خط الاستواء

والناس، لأول مرة

أدركوا أن التعادل فوز للجميع.

***

قال الكورونا: تأمل في الفراغ، تراني

مرة كحاجز زجاجي بينك وبين العالم

ومرة على شكل خوفك من اللا شيء

فإذا جلست وحيدا،

اخلع نظارة الأبيض والأسود

مد عنقك من النافذة واصرخ: كفى

الأرض العجوز تختنق في كمّامتها

وأغصان الأشجار، لن تحتمل لبس القفاز إلى الأبد

غادر طائر الحرية عشه، بحثا عن قفص

***

الآن

إذ يقولون ألمانيا مريضة بضعفها!

وعيادات الأسنان فيها، تعالج من عضّ يد الحسرة

الآن

والشعراء في نيويورك يتبرعون بحرق قصائدهم

فحما لقطارات نقل الجثث

إنه عام الكورونا

عاصفة الغبار الملقح ببذرة الموت

كحّة العالم وقد أصيب بالربو

فدعينا يا حبيبتي نأمل وننتظر

على المطلق، ماذا سيفعل للمبتهلين له

على الصبر، هل هو أفضل من حبوب الاكتئاب

على النسيان، هل سيغسل شوارعنا غدا

أم إنها الأرض العجوز

فقط

تحيضُ في دورتها الكوكبية

تبدّل دمها وريشها وجلدها وناسها

وهي تتدحرج في فضاء الأبدية

وتتقاذفها الأرجل مجانًا في ملعبِ الكون الفسيح.

*نصوص: عادل خزام

زر الذهاب إلى الأعلى