دريكسيت – آنا ميتش – ترجمة: كريم جمال الدين 

دريكسيت*

بدأ ذلك منذ نصف عام في غرفة الأطباء. لم يصوت أي شخص على القرار ولا حتى “دوروتيا” نفسها، بل استسلمت خلايا جسدها وقررت نيابة عنها أنه قد حان الوقت لتنحيها وهي لا زالت في سن الثامنة والعشرين وبعد إقامتها في لندن لمدة أربعة أعوام. لم تفهم ما قاله الطبيب في البداية على الرغم من أنها تتحدث الإنجليزية بطلاقة، بل وحتى وهي طفلة صغيرة فقد تحدثت الإنجليزية بصورة جيدة، فلم تقرر أمها العمل ثلاث مناوبات: واحدة في مكتب البريد، واثنتان كعاملة نظافة عبثاً كي لا تتحدث “دوروتيا” الإنجليزية في النهاية بطلاقة. لكن لسبب ما لم يكن مصطلح “سرطان عنق الرحم” قد دخل قاموسها بعد حتى تلك اللحظة. ولكنها بالطبع قد فهمت كلمة “سرطان”، أما ما أتى بعدها ففي الحقيقة كان سياناً. قال لها الطبيب: – للأسف لقد جاء التشخيص بعد فوات الأوان “دير دوروثي”، بالطبع بعد فوات الأوان، فلم تذهبين للفحص السنوي، بل وحتى أن السبب الوحيد في مجيئكِ الآن هو أنكِ لم تعدِ قادرة حتى على العمل. للأسف ليس هناك ما في وسعنا فعله باستثناء وصف مسكنات للألم.

سافرت “دوروتيا” إلى هنا من الأساس كمتدربة في وكالة إعلانات صغيرة بلندن عام ألفين وخمسة، وانتهى بها الآمر بتولي كل مهام الوكالة بنفسها بعد ذلك: بدءا من تحرير الصور ومنها إلى الرسوم المتحركة وانتهاء بكتابة نصوص الإعلانات بنفسها. وبالتالي فقد أتاحت لها خبرتها التي اكتسبتها في الوكالة من إنشاء حسابها الخاص على الإنستغرام بشكل احترافي. كان حساباً مَجَريّاً ولا في الأحلام صادر من هنا من لندن. قد حصد نجاحاً كبيراً، فوحدة “دوروتيا” قد أتاحت لها الفرصة لتستثمر في حسابها على الإنستغرام الكثير من وقتها، فضلاً عن أن موجة الهجرة كانت في أشد قوتها في ذلك الوقت، الشيء الذي استغلته “دوروتيا” لصالحها. تابعتها نساء مجرية ما بين 25-35 من عمرهن على الإنستغرام من لندن، برلين، أمستردام، ومن كل مكان كان يمكن الهجرة إليه من المجر، وكأن تلك المدن قد ذابت واندمجت معاً مكونة قرية كبيرة يسكنها المجريين. ولكن كانت هناك طبقة أخرى مثيرة للاهتمام من متابعيها تتكون من نساء ورجال ما بين سن 55-65، تابعوها جميعاً من المجر. جاءت منهم أكثر الإعجابات والتعليقات، كانت “دوروتيا” على علم بأنهم يتواصلون مع أبنائهم المهاجرون من خلالها. أصبحت في نظرهم الفتاة التي تعيش حياة أبنائهم.

سرطان. عنق. رحم. هربت من بلدها وجاءت إلى لندن. لكن إلى أين يمكنها الهروب من السرطان.

ليس ما يخيف “دوروتيا” هو خسارة حياتها. بل خافت على شعور أمها التي تعتقد أن ابنتها تعيش حياة سعيدة في ذلك العالم البعيد الغامض. إذا تنحت الآن قبل الأوان، ستضيع ساعات عمل أمها الإضافية وتضحياتها وحرمانها ووحدتها في الأعوام الأربعة الماضية هباء. إذا كانت ستفقد أمها على كل حال من الأحوال، فعلى الأقل لتفقدها وهي تعتقد أن ابنتها سعيدة.    

“دوروتيا”، إيكسيت، دريكسيت. أفضل سيناريو لتنحيها: لتخلد تلك الحياة التي لكان بأماكنها أن تعيشها في ذكرى أمها. أمها في الخامسة والستون من عمرها، توفت كل النساء في عائلتهم من جهة الأم قبل عيد ميلادهن الخامس والسبعون، وبالتالي فإذا أخذنا بأقصى الافتراضات أن أمها ستعيش أكثر منهم بخمسة سنوات، فإن أمامها خمسة عشر سنة أخرى على الأقصى. مما يعني أن على “دوروتيا” أن تبدأ الآن في كتابة محتوى إنستغرام وبوستات لتغطي الخمس عشر سنة القادمة.

– “دوروثي”، في خلال شهر ستتدهور حالتك بشكل ملحوظ.

– لا بأس، لكن متى سأموت؟ – سألت الطبيب وكأنها تسأل عن الموعد النهائي لمشروع ما في عملها.

– لا نعرف على وجهه التحديد، ربما بعد بضعة أشهر، نصف عام.

كانت على علم بأنه مهما كانت حالتها أو مظهرها فإن بإمكانها استخدام إحدى المنقيات التي تجعلها تبدو في حالة رائعة في الصور. ولكنها كانت أيضاً على علم بأنها قريباً لن تتمكن حتى من تحريك يدها وسوف تشعرها شاشة الكمبيوتر بالغثيان ولن تتمكن حتى من احتمال العمل لأكثر من دقيقتين على التوالي. وللأسف ليست هناك وسيلة لمعالجة ذلك في برنامج الفوتو شوب. ليس أمامها الكثير من الوقت، عليها البدء في تنفيذ الدريكسيت.  

أول خطوة من خطوات الدريكسيت: التقليل من نشاطاتها على الإنستغرام، فمقارنة بنشاطاتها الحالية، لن تتمكن من تحضير هذا الكم الهائل من الصور والفيديوهات في الأسابيع المقبلة الباقية – بينما لا تزال في حالة جسدية جيدة – لتغطي الخمسة عشر عاماً القادمة. لذلك عليها أن تعوّد متابعيها على الإنستغرام من الآن فصاعدا على البوست الأسبوعي الواحد.   

ثاني خطوة من خطوات الدريكسيت: بما أنها كانت معتادة على إضافة بضع تعليقات ساخرة عن الوضع العام في بوستاتها على الإنستغرام، فمن الآن فصاعدا عليها الإقلاع عن ذلك أيضاً، فلن تكون قادرة على التنبؤ بالأوضاع المحلية والعالمية لخمسة عشر عاماً قادمة. وعلى أي حال من الأحوال فأختها تشعر بالانزعاج عندما تبدأ “دوروتيا” في التحدث عن الأوضاع في المجر – لأنكِ في تلك الحالة أما تلومين الناس هناك أو تضخمين الأمور. لا تنتقدي الأوضاع من الخارج يا “دوروتيا”!”.

ثالث خطوة من خطوات الدريكسيت: يجب عليها افتراض الحياة التي كانت لتعيشها حتى تصل إلى سن الثالثة والأربعين: ربما ستقرر لاحقاً الانتقال إلى أمريكا، فلم تعد الحياة في إنجلترا كما كانت قبل البريكسيت، وبالرغم من أنها تكره “ترامب” فنيويورك لا زالت أفضل من لندن المنزوعة من أوروبا: ستقابل “توم” زوجها المستقبلي في “منهاتن” في حفل في وكالة الإعلانات هناك: يتواعدان لفترة، يسافران سوياً، ينتقلان للعيش معاً، يتزوجان، ينجبان طفلتين “سارة” و”إليزابيث”. يزداد وزن “دوروتيا” خلال الحمل فجسم أمها وأختها الصغيرة أيضاً قابل للسمنة، ولكنها تجد بعد ذلك حمية فعالة وتخسر الوزن الزائد. تقع علاقتها مع “توم” لاحقاً في أزمة، فلم يعد الضغط النفسي في علاقتهما محتملاً. ينتقلان إلى بيت من بيوت الصفوف في إحدى المدن الصغيرة في “نيو جيرسي” التي تبعد على الأقل ساعة عن مقر عمل “توم” دون ذكر أنها مدينة مملة إلى أقصى الحدود. تستطيع “دوروتيا” في تلك الأثناء بناء علاقات قوية في عملها، وتتمكن بعد ذلك من تأسيس وكالتها الخاصة بها التي تسميها “دوروثي”، والتي لا يزال عليها تصميم شعارها مساء اليوم بسرعة. أما “سارة” و”إليزابيث” فيذهبان هناك إلى الحضانة، بينما يسافر “توم” يومياً لعمله كل تلك المسافة، بالقطار بالطبع، مما يؤثر على علاقتهما. أضف إلى ذلك أن “توم” سيقع في الحب مع إحدى زميلاته في العمل، ثم يترك عائلته وينتقل للسكن مع عشيقته، ولكنه يدرك بعد وهلة أنه لا يستطيع الحياة بدون “دوروتيا” فيعود إليها بعد بضعة أسابيع. يقررا معاً إنجاب طفل آخر. ولكن “تيم الصغير” يولد معاقاً بمتلازمة داون. ربما لأنها أنجبته في سن متأخر، ولكنه يعلم “دوروتيا” وزوجها أشياء جديدة لم يكونا على علم بها.

رابع خطوة من خطوات الدريكسيت: بوست واحد أسبوعي لخمسة عشر عاماً، أي أنه عليها تحضير سبعمائة وثمانون بوست. تختار الممثلين الذين سيلعبون شخصيات “توم” و”سارة” و”إليزابيث” و”تيم” الصغير من ملف وكالة للكومبارس بنيويورك: تختار لـ”سارة” من تلعب دورها كرضيعة، وأخرى وهي في الثالثة من عمرها، ثم السادسة، التاسعة والثانية عشر، و”إليزابيث” أيضا كرضيعة، ثم وهي في الثالثة ثم السادسة وأخيراً التاسعة من عمرها، أما “تيم” فاكتفت باختيار من يجسده كرضيع، كما لم تختار لـ”توم” إلا رجل واحد ليمثل دوره فـلا توجد من “دوروتيا” أيضاً إلا واحدة، دون ذكر أنه حتى أكثر الناس غباء يمكنهن تعديل الصور ليبدوا أصحابها أكبر سناً. تصرف نصف مدخراتها على سلسلة الصور تلك: هي و”توم” سوياً في ـ”غراند كانيون”، ثم في “تورونتو” مع “سارة” ذات الثلاث سنوات، وبعدها “هاواي” مع “سارة” ذات الست سنوات و “إليزابيث” ذات الثلاث سنوات. ثم تحجز شقة لأسبوع على الـ”أير بي إن بي” باعتبارها شقتهم المستقبلية وتصور فيها مشاهد من حياتهم في “نيو جيرسي”. خلال التصوير يمضي خمسة عشر صيفاً وخمسة عشر خريفاً، خمسة عشر شتاء وخمسة عشر ربيعاً، وفي لمح البصر تجلس في تراس بيت الصفوف في الضواحي وهي في الثالثة والأربعين من عمرها حاملة في حضنها “تيم” الصغير بينما يلعب “توم” مع “سارة” ذات الاثني عشر سنة و”إليزابيث” ذات التسع سنوات. تشاهدهم “دوروتيا” من بعيد بينما تغنج الرضيع، ثم تركض نحو الفتاتان وهي حاملة “تيم” في يدها وتعانقهما بشدة وتشم شعرهما. تشعر الفتاتان الصغيرتان لوهلة بالخوف، فكل ما تعرفانه أنهما تمثلان في إعلان، ولا تفهمان لماذا تعانقهما أمهما في الإعلان بهذه الشدة، ولكنهما تتركان أنفسهما لحنان حضنها. تقوم “دوروتيا” بتحرير الصور في ليل اليوم الأخير: يترهل صدرها في الصور مع بضع ضغطات من فأرة الحاسوب وتعرضّ أردافها. تنسخ التجاعيد من صور أمها القديمة على وجهها هي. يفقد “توم” رونقه في الصور أكثر فأكثر باعتبار أن التوتر يأكل روحه ببطء. تكتب “دوروتيا” في ذات الليلة كافة البوستات والتعليقات على الصور، سبعمائة وثمانون بوست، رغم أنها لا تكتفي الآن بكتابة كلمة أو اثنتان متبوعتان ببضعة “إيموجي” كعادتها في السابق، بل تكتب بإسهاب وصدق عن كل الأزمات والصعوبات وبامتنان لكل لحظة سعيدة مرت عليها.

خامس خطوة من خطوات الدريكسيت: عندما تتدهور حالتها ولم تعد قادرة على أي شيء سوى التقيؤ المستمر منذ أسبوع، تقرر أن تبدأ في تفعيل الخطة. لا تكتب مجدداً عن حياتها الشخصية، بل تبدأ في تشغيل سلسة الصور المبرمجة. تحدد توقيت وتاريخ ظهور البوستات. البوست الأخير في 13 يوليو 2034. تتمنى من داخلها أن يظل الإنستغرام موجوداً حتى ذلك الحين وألا تعيش أمها ليوم آخر بعد ذلك التاريخ، كي لا تدرك أن ابنتها في الحقيقة قد ماتت منذ زمن بعيد. نادراً ما أصبحت تجاوب على التعليقات، رغم أن الكثيرين سعداء من أنها و “توم” قد وجدا بعضهما البعض ويتمنون لها السعادة والتوفيق في حياتها الجديدة في نيويورك. ولكن لا يمكنها أن تتفاعل مع تعليقاتهم الآن بنشاط، فعليها أن تنسحب ببطء. تنجح في ذلك بالفعل، فمع حلول الأسبوع الثالث لا تصبح “دوروتيا” سوى متابعة لحسابها الخاص على الإنستغرام، دون ذكر أن مسكنات الألم تذهب بعقلها إلى عالم آخر فلم تعد تتذكر حتى ما هو البوست القادم وتتفاجأ مجدداً ومجدداً من حياة “دوروثي” الرائعة، الصادقة، وتتطلع هي الأخرى إلى المحتوى الجديد بإثارة.

بدأ ذلك منذ نصف عام في غرفة الأطباء. لم يصوت أي شخص على القرار ولا حتى “دوروتيا” نفسها، بل استسلمت خلايا جسدها وقررت نيابة عنها أنه قد حان الوقت لتنحيها وهي لا زالت في سن الثامنة والعشرين، وبعد إقامتها في لندن لمدة أربعة أعوام. لم تفهم ما قاله الطبيب في البداية، على الرغم من أنها تتحدث الإنجليزية بطلاقة، بل وحتى وهي طفلة صغيرة، فقد تحدثت الإنجليزية بصورة جيدة، فلم تقرر أمها العمل ثلاث مناوبات: واحدة في مكتب البريد، واثنتان كعاملة نظافة عبثاً كي لا تتحدث “دوروتيا” الإنجليزية في النهاية بطلاقة. لكن لسبب ما لم يكن مصطلح “سرطان عنق الرحم” قد دخل قاموسها بعد حتى تلك اللحظة. ولكنها بالطبع قد فهمت كلمة “سرطان”، أما ما أتى بعدها، ففي الحقيقة كان سياناً. قال لها الطبيب: – للأسف لقد جاء التشخيص بعد فوات الأوان “دير دوروثي”، بالطبع بعد فوات الأوان، فلم تذهبين للفحص السنوي، بل وحتى أن السبب الوحيد في مجيئكِ الآن هو أنكِ لم تعدِ قادرة حتى على العمل. للأسف ليس هناك ما في وسعنا فعله باستثناء وصف مسكنات للألم.

سافرت “دوروتيا” إلى هنا من الأساس كمتدربة في وكالة إعلانات صغيرة بلندن عام ألفين وخمسة، وانتهى بها الأمر بتولي كل مهام الوكالة بنفسها بعد ذلك: بدءا من تحرير الصور ومنها إلى الرسوم المتحركة وانتهاء بكتابة نصوص الإعلانات بنفسها. وبالتالي فقد أتاحت لها خبرتها التي اكتسبتها في الوكالة من إنشاء حسابها الخاص على الإنستغرام بشكل احترافي. كان حساباً مَجَريّاً ولا في الأحلام صادر من هنا من لندن. قد حصد نجاحاً كبيراً، فوحدة “دوروتيا” قد أتاحت لها الفرصة لتستثمر في حسابها على الإنستغرام الكثير من وقتها، فضلاً عن أن موجة الهجرة كانت في أشد قوتها في ذلك الوقت، الشيء الذي استغلته “دوروتيا” لصالحها. تابعتها نساء مجرية ما بين 25-35 من عمرهن على الإنستغرام من لندن، برلين، أمستردام، ومن كل مكان كان يمكن الهجرة إليه من المجر، وكأن تلك المدن قد ذابت واندمجت معاً مكونة قرية كبيرة يسكنها المجريون. ولكن كانت هناك طبقة أخرى مثيرة للاهتمام من متابعيها تتكون من نساء ورجال ما بين سن 55-65، تابعوها جميعاً من المجر. جاءت منهم أكثر الإعجابات والتعليقات، كانت “دوروتيا” على علم بأنهم يتواصلون مع أبنائهم المهاجرين من خلالها. أصبحت في نظرهم الفتاة التي تعيش حياة أبنائهم.

سرطان. عنق. رحم. هربت من بلدها وجاءت إلى لندن. لكن إلى أين يمكنها الهروب من السرطان.

ليس ما يخيف “دوروتيا” هو خسارة حياتها. بل خافت على شعور أمها التي تعتقد أن ابنتها تعيش حياة سعيدة في ذلك العالم البعيد الغامض. إذا تنحت الآن قبل الأوان، ستضيع ساعات عمل أمها الإضافية وتضحياتها وحرمانها ووحدتها في الأعوام الأربعة الماضية هباء. إذا كانت ستفقد أمها على كل حال من الأحوال، فعلى الأقل لتفقدها وهي تعتقد أن ابنتها سعيدة.    

“دوروتيا”، إيكسيت، دريكسيت. أفضل سيناريو لتنحيها: لتخلد تلك الحياة التي لكان بأماكنها أن تعيشها في ذكرى أمها. أمها في الخامسة والستون من عمرها، توفت كل النساء في عائلتهم من جهة الأم قبل عيد ميلادهن الخامس والسبعون، وبالتالي فإذا أخذنا بأقصى الافتراضات أن أمها ستعيش أكثر منهم بخمس سنوات، فإن أمامها خمس عشرة سنة أخرى على الأقصى. مما يعني أن على “دوروتيا” أن تبدأ الآن في كتابة محتوى إنستغرام وبوستات لتغطي الخمس عشرة سنة القادمة.

– “دوروثي”، في خلال شهر ستتدهور حالتك بشكل ملحوظ.

– لا بأس، لكن متى سأموت؟ – سألت الطبيب وكأنها تسأل عن الموعد النهائي لمشروع ما في عملها.

– لا نعرف على وجهه التحديد، ربما بعد بضعة أشهر، نصف عام.

كانت على علم بأنه مهما كانت حالتها أو مظهرها فإن بإمكانها استخدام إحدى المنقيات التي تجعلها تبدو في حالة رائعة في الصور. ولكنها كانت أيضاً على علم بأنها قريباً لن تتمكن حتى من تحريك يدها وسوف تشعرها شاشة الكمبيوتر بالغثيان، ولن تتمكن حتى من احتمال العمل لأكثر من دقيقتين على التوالي. وللأسف ليست هناك وسيلة لمعالجة ذلك في برنامج الفوتوشوب. ليس أمامها الكثير من الوقت، عليها البدء في تنفيذ الدريكسيت.  

أول خطوة من خطوات الدريكسيت: التقليل من نشاطاتها على الإنستغرام، فمقارنة بنشاطاتها الحالية، لن تتمكن من تحضير هذا الكم الهائل من الصور والفيديوهات في الأسابيع المقبلة الباقية – بينما لا تزال في حالة جسدية جيدة – لتغطي الخمسة عشر عاماً القادمة. لذلك عليها أن تعوّد متابعيها على الإنستغرام من الآن فصاعدا على البوست الأسبوعي الواحد.   

ثاني خطوة من خطوات الدريكسيت: بما أنها كانت معتادة على إضافة بضعة تعليقات ساخرة عن الوضع العام في بوستاتها على الإنستغرام، فمن الآن فصاعدا عليها الإقلاع عن ذلك أيضاً، فلن تكون قادرة على التنبؤ بالأوضاع المحلية والعالمية لخمسة عشر عاماً قادمة. وعلى أي حال من الأحوال فأختها تشعر بالانزعاج عندما تبدأ “دوروتيا” في التحدث عن الأوضاع في المجر – لأنكِ في تلك الحالة أما تلومين الناس هناك أو تضخمين الأمور. لا تنتقدي الأوضاع من الخارج يا “دوروتيا”!”.

ثالث خطوة من خطوات الدريكسيت: يجب عليها افتراض الحياة التي كانت لتعيشها حتى تصل إلى سن الثالثة والأربعين: ربما ستقرر لاحقاً الانتقال إلى أمريكا، فلم تعد الحياة في إنجلترا كما كانت قبل البريكسيت، وبالرغم من أنها تكره “ترامب” فنيويورك لا زالت أفضل من لندن المنزوعة من أوروبا: ستقابل “توم” زوجها المستقبلي في “منهاتن” في حفل في وكالة الإعلانات هناك: يتواعدان لفترة، يسافران سوياً، ينتقلان للعيش معاً، يتزوجان، ينجبان طفلتين “سارة” و”إليزابيث”. يزداد وزن “دوروتيا” خلال الحمل فجسم أمها وأختها الصغيرة أيضاً قابل للسمنة، ولكنها تجد بعد ذلك حمية فعالة وتخسر الوزن الزائد. تقع علاقتها مع “توم” لاحقاً في أزمة، فلم يعد الضغط النفسي في علاقتهما محتملاً. ينتقلان إلى بيت من بيوت الصفوف في إحدى المدن الصغيرة في “نيو جيرسي” التي تبعد على الأقل ساعة عن مقر عمل “توم” دون ذكر أنها مدينة مملة إلى أقصى الحدود. تستطيع “دوروتيا” في تلك الأثناء بناء علاقات قوية في عملها، وتتمكن بعد ذلك من تأسيس وكالتها الخاصة بها التي تسميها “دوروثي”، والتي لا يزال عليها تصميم شعارها مساء اليوم بسرعة. أما “سارة” و”إليزابيث” فيذهبان هناك إلى الحضانة، بينما يسافر “توم” يومياً لعمله كل تلك المسافة، بالقطار بالطبع، مما يؤثر على علاقتهما. أضف إلى ذلك أن “توم” سيقع في الحب مع إحدى زميلاته في العمل، ثم يترك عائلته وينتقل للسكن مع عشيقته، ولكنه يدرك بعد وهلة أنه لا يستطيع الحياة بدون “دوروتيا” فيعود إليها بعد بضعة أسابيع. يقررا معاً إنجاب طفل آخر. ولكن “تيم الصغير” يولد معاقاً بمتلازمة داون. ربما لأنها أنجبته في سن متأخر، ولكنه يعلم “دوروتيا” وزوجها أشياء جديدة لم يكونا على علم بها.

رابع خطوة من خطوات الدريكسيت: بوست واحد أسبوعي لخمسة عشر عاماً، أي أنه عليها تحضير سبعمائة وثمانين بوست. تختار الممثلين الذين سيلعبون شخصيات “توم” و”سارة” و”إليزابيث” و”تيم” الصغير من ملف وكالة للكومبارس بنيويورك: تختار لـ”سارة” من تلعب دورها كرضيعة، وأخرى وهي في الثالثة من عمرها، ثم السادسة، التاسعة والثانية عشر، و”إليزابيث” أيضا كرضيعة، ثم وهي في الثالثة ثم السادسة وأخيراً التاسعة من عمرها، أما “تيم” فاكتفت باختيار من يجسده كرضيع، كما لم تختر لـ”توم” إلا رجل واحد ليمثل دوره فـلا توجد من “دوروتيا” أيضاً إلا واحدة، دون ذكر أنه حتى أكثر الناس غباء يمكنهن تعديل الصور ليبدوا أصحابها أكبر سناً. تصرف نصف مدخراتها على سلسلة الصور تلك: هي و”توم” سوياً في ـ”غراند كانيون”، ثم في “تورونتو” مع “سارة” ذات الثلاث سنوات، وبعدها “هاواي” مع “سارة” ذات الست سنوات و “إليزابيث” ذات الثلاث سنوات. ثم تحجز شقة لأسبوع على الـ”أير بي إن بي” باعتبارها شقتهم المستقبلية وتصور فيها مشاهد من حياتهم في “نيو جيرسي”. خلال التصوير يمضي خمسة عشر صيفاً وخمسة عشر خريفاً، خمسة عشر شتاء وخمسة عشر ربيعاً، وفي لمح البصر تجلس في تراس بيت الصفوف في الضواحي وهي في الثالثة والأربعين من عمرها حاملة في حضنها “تيم” الصغير بينما يلعب “توم” مع “سارة” ذات الاثنتي عشرة سنة و”إليزابيث” ذات التسع سنوات. تشاهدهم “دوروتيا” من بعيد بينما تغنج الرضيع، ثم تركض نحو الفتاتين وهي حاملة “تيم” في يدها وتعانقهما بشدة وتشم شعرهما. تشعر الفتاتان الصغيرتان لوهلة بالخوف، فكل ما تعرفانه أنهما تمثلان في إعلان، ولا تفهمان لماذا تعانقهما أمهما في الإعلان بهذه الشدة، ولكنهما تتركان أنفسهما لحنان حضنها. تقوم “دوروتيا” بتحرير الصور في ليل اليوم الأخير: يترهل صدرها في الصور مع بضع ضغطات من فأرة الحاسوب وتعرضّ أردافها. تنسخ التجاعيد من صور أمها القديمة على وجهها هي. يفقد “توم” رونقه في الصور أكثر فأكثر باعتبار أن التوتر يأكل روحه ببطء. تكتب “دوروتيا” في ذات الليلة كافة البوستات والتعليقات على الصور، سبعمائة وثمانون بوست، رغم أنها لا تكتفي الآن بكتابة كلمة أو اثنتين متبوعتين ببضعة “إيموجي” كعادتها في السابق، بل تكتب بإسهاب وصدق عن كل الأزمات والصعوبات وبامتنان لكل لحظة سعيدة مرت عليها.

خامس خطوة من خطوات الدريكسيت: عندما تتدهور حالتها ولم تعد قادرة على أي شيء سوى التقيؤ المستمر منذ أسبوع، تقرر أن تبدأ في تفعيل الخطة. لا تكتب مجدداً عن حياتها الشخصية، بل تبدأ في تشغيل سلسة الصور المبرمجة. تحدد توقيت وتاريخ ظهور البوستات. البوست الأخير في 13 يوليو 2034. تتمنى من داخلها أن يظل الإنستغرام موجوداً حتى ذلك الحين وألا تعيش أمها ليوم آخر بعد ذلك التاريخ، كي لا تدرك أن ابنتها في الحقيقة قد ماتت منذ زمن بعيد. نادراً ما أصبحت تجاوب على التعليقات، رغم أن الكثيرين سعداء من أنها و “توم” قد وجدا بعضهما البعض ويتمنون لها السعادة والتوفيق في حياتها الجديدة في نيويورك. ولكن لا يمكنها أن تتفاعل مع تعليقاتهم الآن بنشاط، فعليها أن تنسحب ببطء. تنجح في ذلك بالفعل، فمع حلول الأسبوع الثالث لا تصبح “دوروتيا” سوى متابعة لحسابها الخاص على الإنستغرام، دون ذكر أن مسكنات الألم تذهب بعقلها إلى عالم آخر فلم تعد تتذكر حتى ما هو البوست القادم وتتفاجأ مجدداً ومجدداً من حياة “دوروثي” الرائعة، الصادقة، وتتطلع هي الأخرى إلى المحتوى الجديد بإثارة.

سادس خطوة من خطوات الدريكسيت: أصعب خطوة، عليها أن تتشاجر مع أختها الصغيرة وأمها كي تجعل علاقتهما بها منحصرة في متابعتها على الإنستغرام فحسب. لا تتصل بهما، فالصور يمكن تعديلها ولكن صوتها سيكشفها. السبب في اختيارها لذلك السيناريو على الإنستغرام أو بمعنى أصح كذبة انتقالها لأمريكا، هو أنها على علم تام أن ليس لأمها وأختها ما يكفي من المال كي تسافرا إليها، أضف إلى ذلك خوفهما من الطيران لمسافات بعيدة. تكتب لهما خطاب للوداع تخبرهما فيه بأنها ستسافر لأمريكا، الشيء الذي يعد بمثابة ختم النهاية لذلك البعد الذي تشعر به تجاههما منذ سنوات. ليس الذنب بذنبهما، ولكن حياتهما مختلفة تماماً عن حياتها ولا يوجد وجه للمقارنة. تكتب لهما أنها قطعت أي علاقة تربطها بالمجر ولا تريد أن تعود إليها أبداً وترغب في أن تحفظ ذكراهما في مخيلتها كما هي الآن: لا ترغب أن تراهما وهما تغرقان في مستنقع الأوضاع الاقتصادية والسياسية في بلدها. تكتب لهما أيضاً أنها لن تخبرهما أين ستسكن في أمريكا بالضبط: “أرجو منكما ألا تبحثا عني، أتوسل إليكما، الوداع يا أمي، لكنني سأشتاق إليكِ رغم كل ذلك، وشكرا على كل شيء”. 

سابع خطوة من خطوات الدريكسيت: تعين حوالة شهرية لأمها من مجهول من النصف الآخر من مدخراتها لخمسة عشر عاماً.

آخر خطوة من خطوات الدريكسيت: إيكسيت.


*:دريكسيت/ Drexit استيحاءاً من مصطلح بريكسيت / Brexit، أو انسحاب بريطانيا من عضوية الاتحاد الأوروبي، حيث تستعد بطلة القصة دوروتيا هي أيضاً من الانسحاب تدريجياً من الحياة.


  • نص: آنا ميتش ( كاتبة مجرية معاصرة ولدت عام 1988. قصة “دريكسيت” قد صدرت في كتابها “خطأ في الاتصال” عام 2020).
  • ترجمة:  كريم جمال الدين 
زر الذهاب إلى الأعلى