من فرنسا مع حبي – جان ماري لوكليزو – ترجمة: هناء خليف غني

في الليل ناديتُ اسمكِ أوريا، زوجتي، وأنتم سميرة وجميلة وعلي أطفالي الأحباء. بدأتُ هذه السطور بأسمائكم وسأختمها بكم. أوريا زوجتي لأنكِ المرأة التي أحب أكثر من أي شيء آخر في العالم. عندما غادرت تاتا قبل ثلاث سنوات، تركتُ ورائي كل ما أحببته وعرفته منذ ولادتي، تركتُ منزل آبائي ومراتع طفولتي وذكرياتي، لم أكن أملك شيئاً لآخذه معي سواكم. كنا فقراء للغاية مما اضطرني إلى الرحيل. أخذتُ معي كل ما هو عزيز وغالٍ على قلبي: أسماؤكم وأولها اسمك عزيزتي أوريا. يا له من اسم جميل أكرره ليلًا ونهارًاً. إن ذكر اسمكِ يمنحني القوة ويدفعني إلى المزيد من العمل ويباركني.

أوريا إن اسمكِ يلهمني ويغمرني بالسعادة حين أنطقه. لقد استوطن روحي وملأ عليَّ مسامعي وشغل قلبي ودخل مسامات جلدي وخلايا جسدي، أحياناً أشعر كما لو أنني كنتُ أحمله معي طوال حياتي. كلُّ مساء عندما أعود منهكًا من أوامر غوغيليو في الموقع الذي أعمل فيه، أدخل الغرفة في فندق رودي أتالي الذي أعيش فيه مع مالك، التونسي، وأتمدد على الحصيرة. لا شيء يشغلني سوى ذكراك التي تعيد شيئاً من صفاء نفسي وتوازني. فقدت اهتمامي بالتلفاز، ولم أعد أهتم بالضوء الأزرق المتماوج في الغرفة، ولا حتى بتلك الصور السخيفة، تلك الصور التي لن تكوني أبدًاً، عزيزتي أوريا، جزءًاً منها. بعد رجوعه من العمل، لا يفعل مالك شيئاً خلا مشاهدة التلفاز حتى يغلبه النعاس. إنه قليل الكلام ولكن لا يفوته شيء في التلفاز. إنه يشاهد المباريات الرياضية والأفلام والبرامج الحوارية- كل شيء-أحيانًاً أعتقد أنه سيجن من إدمانه المشاهدة.


أغلق عيني وأنا أستلقي على الحصيرة قرب النافذة فيظهر طيفكِ أمامي أوريا. مالك لا يراكِ، أنا الوحيد الذي بإمكانه رؤيتكِ في هذه الغرفة الضيقة، فاسمكِ محفور في ذاكرتي. أنا في انتظار اليوم الذي سيجمعنا معاً مرة أخرى. اسمكِ مكتوب في جملة طويلة جدًاً، جملة لا حد لها، جملة تتحرك ببطء نحو الجانب الآخر من العالم حيث تنتظريني. عندها سيكون بمقدوري رؤيتكِ، أنا البعيد عنكِ في هذه المدينة وهذه الغرفة. في المدينة التي أعمل فيها الجو بارد شتاءً وخانق صيفًاً. الحصائر ملقاة على الأرض بلا اكتراث. حصيرة مالك مفروشة قرب الباب وحصيرتي قرب الشباك. في وسط الغرفة تمامًاً، ما زالت حصيرة سليمان ممدودةً. قبل أسبوع انهار الجدار الذي لم يكن متينًا في الموقع على سليمان أخو مالك، وبترت على أثره ذراعه اليمنى. لن يكون بمقدوره العمل ثانيةً. عندما خرج من المستشفى عاد إلى زوجته وأطفاله في تونس. مالك على الأقل تحدث عن ذلك، ثم واصل مشاهدة التلفاز والغضب يرتسم على قسمات وجهه. لم يكن أمامي سوى التساؤل عما ستفعيلنه، أوريا، لو حدث أمر مماثل لي، إذا عدت للمنزل بساقٍ أو ذراعٍ مبتورةٍ، ماذا سيقول أطفالنا؟


أحب النوم قرب النافذة. في الأصبوحات الربيعية أستطيع التنبؤ عما سيكون عليه الطقس. بإمكاني الإصغاء إلى زقزقة الطيور ورؤية الأضواء في تاتا، الأضواء التي تشاهدينها بعينيكِ، أوريا. تاتا أحب ترديد هذا الاسم أيضًاً. إنه اسم يجعل الناس هنا يضحكون. إنهم لا يفهمون هذه الكلمة. خفضت صوتي معتذرًاً عندما قلتها لأنهم يجدونها مسلية، لأجعلهم يدركون أني لن أتمكن من تغيير طريقة لفظي لها. إنه اسم جميل، أوريا؛ إنه كاسمكِ يمنحني القوة والحياة. اعتدت أن أردد مع نفسي أسماء القرى والأسواق أيضاً. إنها كأسماء أفراد عائلتي. أسواق البرا وتزارت والخميس وايغو واميترك. أرددها وعيناي مغمضتان وأنا بقربكِ أوريا حتى لو لم تتمكن يداي من لمسكِ، حتى لو لم أتناول خبزكِ أو أشرب شايكِ.


بقدرتي رؤية ابتسامتكِ وسماع همسات صوتكِ في أذني وأنت تغنين التنهيدة لوليدنا، الذي لم يأت بعد. بقدرتي رؤية تلألؤ عينيك المأسورتين برموشكِ المكحلة، بقدرتي شم رائحة شعركِ وأنت تمشطين في الصباح المشمس في الباحة التي تجتمع بها النساء. بقدرتي رؤيتكِ كما تعودت عندما كنت أختلس النظر إليكِ عبر ستائر النافذة في غرفة الرجال.


تأتي الفصول وتمضي وأنا بعيد عنكِ أوريا، وعن أولادي وأحبابي. في الشتاء، يكون الطقس شديد البرودة في موقع العمل. فقط ذكرى صوتكِ وعينيكِ تبقيانني على قيد الحياة. لأجلكِ أُشيد صفاً تلو الآخر من الطابوق السميك، وأصب الخرسانة على القضبان الحديدية الصدئة وأثبت البراغي في أركان السقف وأسوي الجص على الجدران. اسمي عبد الحق واسم أبي ريبو وأمي خديجة. غوغيليو، رب العمل لا يتذكر اسمي أو ربما لا يود ذلك. إنه يدعوني أحمد. جميع العمال في الموقع يدعوهم أحمد. لا يهم ذلك. لأجلكِ وحدكِ أرفع المجرفة تلو الأخرى ولأجلكِ أنقل الأسمنت وأشيد الجدران يوماً بعد يوم وشهرًاً تلو الآخر. شيدت عددًاً من المنازل أكثر مما تحتاجه جميع عائلات تاتا. شيدت مدناً بأكملها وعندما أُدخر ما يكفي من المال سأعود إليكِ أوريا ولن أبتعد عنكِ أبدًا مرة أخرى.


الشمس أحرقت بشرتي وجمد البرد أطرافي، وساقاي ترتعشان من حمل الطابوق والمجارف. تعودتُ على ذلك الآن. عندما وصلت إلى المدينة قبل ثلاث سنوات، كنتُ ضعيفًاً وحساسًاً مثل طفل صغير، ومع حلول المساء أكون شديد التعب ووحيدًا، فأستلقي على الأرض وأدع الدموع تنهمر من عينيَ. عشتُ في سكنٍ داخلي مع عدد من الأفارقة والتونسيين فوق إحدى البارات، ومصابيح النيون في الشارع ترسل شعاعًا دمويّ اللون إلى داخل الغرفة. ضوضاء السيارات تتعالى في الشوارع وكذلك صراخ النساء وأصوات السكارى وهم يلعنون الحظ والحياة. لم يكن ثمة أطفال ولا مشاهد مؤنسة. في ذلك الوقت بدأتُ بمناداة اسمكِ أوريا وأسماء أطفالي واسم تاتا. في ذلك الوقت تذكرتُ بشوقٍ أول يوم التقيتكِ فيه في بستان النخيل الكبير قرب النهر، يوم الاحتفال عندما كنتِ جزءًا من موكب الشابات اللواتي شاركن في حمل الطلع إلى زهور النخيل.


كان الهواء منعشاً والتراب الذهبي يتصاعد نحو السماء، أتذكر ذلك بوضوح. ضج الوادي بالغناء والضحكات المرحة وبينما يمر موكب النساء أمامي رأيتكِ أوريا، واللمعان في عينيكِ غمر روحي. أدركتُ حينها أنكِ قدري، أنكِ ستكونين زوجتي. وفي الشتاء الموحش والقارص البرودة في مواقع البناء وأنا بعيد عنكِ، تلازمني ذكرى ذلك اليوم وتبعث الدفء في نفسي. إنها هذه الذكرى التي تمنحني القوة وتعينني على رفع الأحمال الثقيلة من الأسمنت والجص. حتى عندما يعم المكان السكون وتتلاشى الكلمات والابتسامات ولا نسمع سوى أوامر غوغيليو تتردد في أرجاء الموقع، وأصوات القواطع والمطارق والرافعات وهي ترفع المزيد والمزيد من الأسمنت والطابوق، وحتى عندما تمر الآحاد الخاوية على الشوارع المتربة الوحيدة والخالية من الأطفال حيث يترصد الأشرار ضحاياهم، تبقى ذكرى ذلك اليوم في وادي النخيل دائمًاً معي. أوريا، أُشاهدك في ذكرياتي وأنتِ ترتدين كامل زينتكِ ووجهكِ ويداكِ متغطيتان بالطلع الذهبي ولمعان عينيكِ يسكن عيوني لما تبقى من أيامي في هذه المنطقة الموحشة.


*نص: جان ماري لوكليزو
*ترجمة: هناء خليف غني

زر الذهاب إلى الأعلى