إلى مالك حدَّاد .
ابنُ قسنطينة الذي أقسمَ بعدَ استقلالِ الجزائرِ ألا يكتبَ بلغةٍ ليست لغته .
فاغتالته الصفحةُ البيضاء .. وماتَ متأثراً بسلطانِ صمتهِ ليصبحَ شهيدَ اللغةِ العربيةِ ، وأولَ كاتبٍ قرَّرَ أن يموتَ صمتاً وقهراً وعشقاً لها .
وإلى أبي .
عساهُ يجدُ “هناكَ” من يُتقنُ العربيةَ، فيقرأَ له أخيراً هذا الكتاب ..كتابه .
أحلام
ما زلتُ أذكرُ قولكِ ذات يوم :
“الحبُّ هوَ ما حدثَ بيننا . والأدبُ هوَ كل ما لم يحدث”.
يُمكنني اليومَ، بعدما انتهى كل شئٍ أن أقول :
هنيئاً للأدبِ على فجيعتنا إذن فما أكبرَ مساحة ما لم يحدث . إنها تصلحُ اليومَ لأكثر من كتاب .
وهنيئاً للحبِّ أيضاً ..
فما أجملَ الذي حدثَ بيننا ، ما أجملَ الذي لم يحدث ، ما أجملَ الذي لن يحدث .
قبلَ اليوم، كنتُ أعتقدُ أننا لا يُمكنُ أن نكتبَ عن حياتنا إلاَّ عندما نُشفى منها.
عندما يُمكنُ أن نلمسَ جراحنا القديمةَ بقلمٍ ، دونَ أن نتألمَ مرةً أخرى.
عندما نقدرُ على النظرِ خلفنا دونَ حنين، دونَ جنون، ودونَ حقدٍٍ أيضاً.
أيمكنُ هذا حقاً ؟
نحنُ لا نُشفى من ذاكرتنا. ولهذا نحنُ نكتبُ، ولهذا نحنُ نرسمُ، ولهذا يموتُ بعضنا أيضاً .
– أتريدُ قهوة؟
يأتي صوتُ عتيقة غائباً، وكأنه يطرحُ السؤالَ على شخصٍ غيري. معتذراً دونَ اعتذار، عليَّ وجهٌ للحزنِ لم أخلعه منذُ ايام.
يخذلني صوتي فجأةً. أجيبُ بإشارةٍ من رأسي فقط.
فتنسحبُ لتعودَ بعد لحظات، بصينيِّةِ قهوةٍ نحاسيَّةٍ كبيرة عليها إبريق، وفناجين، وسكَّرية، ومرشٌّ لماءِ الزهر، وصحنٌ للحلويات.
في مدنٍ أخرى تُقدمُ القهوةُ جاهزةً في فنجان، وُضعت جواره مسبقاً ملعقة وقطعة سكَّر.
ولكن قسنطينة مدينةٌ تكرهُ الإيجازَ في كلِّ شئ.
إنها تفردُ ما عندها دائماً. تماماً كا تلبسُ كلَّ ما تملك. وتقولُ كلَّ ما تعرف.
ولهذا كانَ حتى الحزن وليمة في هذهِ المدينة.
أجمعُ الأوراقَ المبعثرةَ أمامي، لأتركَ مكاناً لفنجانِ القهوة وكأنني أفسحُ مكاناً لكِ.
بعضها مسوَّدات قديمة، وأخرى أوراقٌ بيضاءَ تنتظرُ منذُ أيامٍ بعضَ الكلمات فقط كي تدبَّ فيها الحياة، وتتحولَ من ورقٍ إلى أيام.
كلماتٌ فقط، أجتازُ بها الصمتَ إلى الكلام، والذاكرةَ إلى النسيان، ولكن ..
تركتُ السكَّرَ جانباً، وارتشفتُ قهوتي مرَّةً كما عودني حبُّكِ.
فكرتُ في غرابةِ هذا الطعمِ العذب للقهوةِ المرَّة. ولحظتها فقط، شعرتُ أنني قادرٌ على الكتابةِ عنكِ فأشعلتُ سيجارةً عصبية، ورحتُ أطاردُ دخانَ الكلماتِ التي أحرقتني منذ سنوات، دونَ أن أطفئَ حرائقها مرة فوق صفحة.
هل الورقُ مطفأةٌ للذاكرة ؟
نتركُ فوقه كل مرةٍ رمادَ سيجارةِ الحنينِ الأخيرة، وبقايا الخيبةِ الأخيرة.
من مِنَّا يُطفئُ أو يُشعلُ الأخر ؟
لا أدري.. فقبلكِ لم أكتب شيئاً يستحقُّ الذكر .. معكِ فقط سابدأُ الكتابة.
ولابدَّ أن أعثرَ أخيراً على الكلمات التي سأنكتبُ بها، فمن حقِّي أن أختارَ اليومَ كيفَ أنكتب. أنا الذي لم أختر تلكَ القصَّة.
قصةً كانَ يُمكنُ ألا تكونَ قصتي، لو لم يضعكِ القدرُ كلَّ مرةٍ مصادفةً عندَ منعطفاتِ فصولها.
من أينَ جاءَ هذا الارتباك ؟
وكيفَ تطابقت مساحةُ الأوراقِ البيضاءِ المستطيلة، بتلكَ المساحةِ الشاسعةِ البياض للوحاتٍ لم تُرسم بعد.. وما زالت مُسندةً على جدارِ مرسمٍ كانَ مرسمي ؟
وكيفَ غادرتني الحروفُ كما غادرتني قبلها الألوان.وتحولَ العالمُ إلى جهاز تلفزيون عتيق، يبثُّ الصورَ بالأسودِ والأبيض فقط؟
ويعرضُ شريطاً قديماً للذاكرة، كما تُعرضُ أفلام السينما الصامتة.
كنتُ أحسدهم دائماً، أولئك الرسامين الذين كانوا ينتقلون بين الرسم والكتابةِ دون جهد، وكأنهم ينتقلون من غرفةٍ إلى أخرى داخلهم. كأنهم ينتقلونَ بين امرأتينِ دونَ كلفة.
كانَ لابدَّ ألا أكونَ رجلاً لامرأةٍ واحدة !
ها هو ذا القلمُ إذن.. الأكثرُ بوحاً والأكثر جرحاً.
ها هوَ ذا الذي لا يُتقن المراواغة، ولا يعرفُ كيف توضعُ الظلال على الأشياء. ولا كيفَ تُرش الألوانُ على الجرحِ المعروضِ للفرجة.
وها هيَ الكلمات التي حُرمتُ منها، عاريةً كما أردتها، موجعةً كما أردتها، فلمَ رعشةُ الخوفِ تشلُّ يدي، وتمنعني من الكتابة؟
تُراني أعي في هذهِ اللحظةِ فقط، أني استبدلتُ بفرشاتي سكيناً. وأن الكتابةَ إليكِ قاتلة.. كحبكِ.
ارتشفتُ قهوتكِ الـمُرَّة بمتعةٍ مشبوهةٍ هذه المرَّة. شعرتُ أنني على وشكِ أن أعثرَ على جملةٍ أولى، أبدأ بها هذا الكتاب.
جملةٍ قد تكونُ في تلقائيةِ كلماتِ رسالة.
كأن أقول مثلاً :
” أكتبُ إليكِ من مدينةٍ ما زالت تشبهكِ، وأصبحتُ أشبهها. ما زالت الطيورُ تعبرُ هذه الجسور على عجل، وأنا أصبحتُ جسراً آخر معلقاً هنا.
لا تحبي الجسورَ بعد اليوم.. “
أو شيئاً آخر مثل:
” أمامَ فنجانِ قهوةٍ ذكرتكِ..
كان لابدَّ أن تضعي ولو مرةً واحدة قطعةَ سُكَّر في قهوتي. لماذا كل هذه الصينية؛ أمن أجلِ قهوةٍ مُرَّة..؟ “.
كانَ يُمكنُ أن أقول أي شئ. ففي النهايةِ، ليست الروايات سوى رسائل وبطاقات، نكتبها خارجَ المناسباتِ المعلنة، لنعلنَ نشرتنا النفسيةَ لمن يهمهم أمرنا.
ولذا أجملها، تلكَ التي تبدأ بجملةٍ لم يتوقعها من عايشَ طقسنا ومناخنا. وربما كان يوماً سبباً في كل تقلباتنا الجوية.
تتزاحمُ الجملُ في ذهني. كل تلك التي لم تتوقعيها. وتمطرُ الذاكرة فجأةً.
فأبتلعُ قهوتي على عجل. وأُشرعُ نافذتي لأهربَ منكِ إلى السماء الخريفية، إلى الشجر والجسور والمارة.
إلى مدينةٍ أصبحت مدينتي مرَّةَ أخرى. بعدما أخذت لي موعداً معها لسببٍ آخرَ هذه المرة.
هذه قسنطينة. وها هوَ كل شئٍ أنتٍ.
وها أنتِ تدخلين إليَّ، من النافذةِ نفسها التي سبقَ أن دخلتِ منها منذ سنوات. معَ صوتِ المآذنِ نفسه، وصوت الباعة، وخُطى النساء الملتحفاتِ بالسواد، والأغاني القادمة من مذياعٍ لا يتعب.
” يا التفاحة.. يا التفاحة.. خبِّريني.. وعلاش الناس والعة بيكِ ..”
تستوقفني هذه الأغنيةُ بسذاجتها.
تضعني وجهاً لوجهٍ مع الوطن. تُذكرني دونَ مجالٍ للشك بألأنني في مدينةٍ عربية. فتبدو السنوات التي قضيتها في باريس حلماًً خرافياً .
هل التغزلُ بالفواكهِ ظاهرةٌ عربية؟ أم وحده التفاح الذي ما زالَ يحملُ نكهةَ خطيئتنا الأولى، شهيٌّ حدَّ التغني به، في أكثرِ من بلدٍ عربي.
وماذا لو كنتِ تُفاحة؟
لا، لم تكوني تفاحة.
كنتِ المرأة التي أغرتني بأكلِ التفاحِ لا أكثر. كنتِ تُمارسينَ معي فطرياً لعبةَ حوَّاء. ولم يكن بإمكاني أن أتنكرَ لأكثر من رجل يسكنني، لأكونَ معكِ أن بالذات في حماقةِ آدم !
– أهلاً سي خالد.. واش راك اليوم ؟
يُسلمُ عليَّ جار، تسلَّقتْ نظراتهُ طوابقَ حُزني. وفاجأه وقوفي الصباحي، خلفَ شرفةٍ للذهول.
أتابعُ في نظرةٍ غائبة، خطواته المتجهةَ نحوَ المسجدِ المجاور. وما يليها من خطواتٍ لمارةٍ آخرين، بعضها كسلى، وأخرى عجلى، متجهةً جميعها نحو المكان نفسه.
الوطنُ كله ذاهب للصلاة.
والمذياعُ يُمجدُ أكلَ التفاحة.
وأكثر من جهاز هوائي على السطوح، يقفُ مقابلاً المآذن، يرصدُ القنوات الأجنبية، التي تقدمُ كلَّ ليلةٍ على شاشةِ تلفزيونك، أكثر من طريقةٍ عصريةٍ لأكل التفاح!
أكتفي بابتلاعِ ريقي فقط.
في الواقعِ لم أكن أحب الفواكه. ولا كانَ أمر التفاح يعنيني بالتحديد. كنتُ أحبكِ أنتِ. وما ذنبي إن جاءني حبكِ في شكلِ خطيئة؟!
كيفَ أنتَ، يسألني جارٌ ويمضي للصلاة.
فيجيبه لساني بكلماتٍ مقتضبة، ويمضي في السؤالِ عنكِ.
كيفَ أنا؟
أنا ما فعلتهِ بي سيدتي.. فكيفَ أنتِ؟
يا امرأةً كساها حنيني جنوناً، وإذا بها تأخذ تدريجيا ملامحَ مدينةٍ وتضاريسَ وطن.
وإذا بي أسكنها في غفلةٍ من الزمن، وكأنني أسكنُ غرفَ ذاكرتي المغلقة من سنين.
كيفَ حالكِ؟
يا شجرةَ توتٍ تلبسُ الحدادَ وراثياً كلَّ موسم.
يا قسنطينةَ الأثواب. يا قسنطينةَ الحبِّ، والأفراحِ والأحزانِ والأحباب. أجيبي أينَ تكونين الآن؟
ها هيَ قسنطينة. باردة الأطراف والأقدام. محمومة الشفاه، مجنونة الأطوار.
ها هي ذي.. كم تشبهينها اليومَ أيضاً . لو تدرين!
دعيني أغلقُ النافذة.
كانَ مارسيل بانيول يقول:
” تعوَّد على اعتبار الأشياء العادية، أشياءَ يُمكن أن تحدثَ أيضاً “.
أليسَ الموتُ في النهايةِ شيئاً عادياً، تماماً كالميلادِ، والحبِّ، والزواجِ، والمرضِ، والشيخوخةِ، والغربةِ والجنونِ، وأشياءَ أخرى؟
فما أطول قائمة الأشياء العادية التي نتوقعها فوق العادة، حتى تحدث. والتي نعتقدُ أنها لا تحدثُ سوى للآخرين، وأن الحياةَ لسببٍ أو لآخر ستوفرُ علينا كثيراً منها، حتى نجدَ أنفسنا يوماً أمامها.
عندما أبحثُ في حياتي اليوم، أجدُ أن لقائي بكِ هو الشئ الوحيد الخارق للعادةِ حقاً. الشئُ الوحيد الذي لم أكن لأتنبأ به، أو أتوقع عواقبه عليَّ. لأنني كنتُ أجهلُ وقتها أن الأشياء غير العادية، قد تجرُّ معها كثيراً من الأشياء العادية.
ورغمَ ذلك، ما زلتُ أتساءل بعد كل هذه السنوات، أين أضع حبكِ اليوم؟
أفي خانةِ الأشياء العادية التي قد تحدث لنا كأي وعكةٍ صحية أو زلةِ قدمٍ أو نوبةِ جنون؟
أم أضعه حيث بدأ يوماً ؟
كشئٍ خارقٍ للعادة، كهديةٍ من كوكبٍ لم يتوقع وجوده الفلكيون. أو زلزالٍ لم تتنبأ به أية أجهزةٍ لرصد الهزات الأرضية.
أكنتِ زلةَ قدمٍ.. أم زلةَ قدر؟
أقلبُ جريدةَ الصباح بحثاً عن أجوبةٍ مقنعةٍ لحدثٍ عادي، غيَّرَ مسارَ حياتي وجاءَ بي إلى هنا.
أتصفحُ تعاستنا بعد كل هذه الأعوام، فيعلقُ الوطنُ حبراً أسوداً بيدي.
هناكَ صحفٌ يجب أن تغسلَ يديك إن تصفحتها، وإن كان ليس للسببِ نفسه كل مرة. فهنالكَ واحدة تتركُ حبرها عليك، وأخرى أكثر تألقاً، تنقلُ عفونتها إليك.
ألأنَّ الجرائد تُشبه أصحابها. تبدو لي جرائدنا وكأنها تستيقظُ كلَّ يومٍ مثلنا، بملامحَ متعبة، وبوجهٍ غير صباحي غسلته على عجل، ونزلت به إلى الشارع. هكذا دونَ أن تكلفَ نفسها مشقةَ تصفيفِ شعرها، أو وضعِ ربطةِ عنقٍ مناسبة.. أو إغرائنا بابتسامة.
25/ أكتوبر/1988 .
عناوين كُبرى. كثيرٌ من الحبرِ الأسود. كثيرٌ من الدم. وقليلٌ من الحياء.
هنالكَ جرائد تبيعكَ نفس صور الصفحة الأولى، ببذلةٍ جديدةٍ كلَّ مرة.
هنالكَ جرائد تبعيكَ نفس الأكاذيب بطريقةٍ أقل ذكاءً كلَّ مرة.
وهنالك أخرى، تبيعكَ تذكرةً للهروب من الوطن.. لا غير.
وما دام ذلك لم يعد ممكناً، فلأغلق الجريدةَ إذن، ولأذهب لغسلِ يدي.
من منشورات دار الآداب. الطبعة الثانية عشرة 1999. النص المختار من صفحة 5 إلى صفحة 15 من الفصل الأول.
أحلام مستغانمي. كاتبة جزائرية معاصرة. حائزة على جائزة نجيب محفوظ للإبداع الأدبي لعام 1998. أشهر ما كتبته ثلاثيتها: ذاكرة الجسد، فوضى الحواس، عابر سرير. ولها منشورات أخرى بالعربية والفرنسية.