كلانا معًا على حافّة جسدَيْن – عبده وازن




مزاج

تعالي ننام، أمامنا الكثير من الليالي، لنسهرَ ونَفتحَ عيوننا، فأنظر إليكِ، وتنظرينَ كأنَّما ليس إليّ. تعالي ننام، فالنهار سيكون طويلاً غداً وبعد غد وبعد … لِنَنَم ما دامت نجمة التلاشي أشرقت علينا من قلب هذا الاحتضار الطويل الذي نُسميه الحياة، من صميم هذا الخدر الذي يعتري جَسدينا. لِنَنَم كأن دهراً مر لم نتم فيه لحظة. كأنَّنا ولدنا من أرقٍ طويل، وعلينا أن ننام مثل نُطفتين، ما بَرَحتا في عتمة رحم. كأنَّ شخصيْن آخرين ناما عنا تلك الليالي كلّها ونحن ساهران، كأنَّهما يَنامان عنَّا وعيوننا يتأكَّلها ملحُ اليَقظة. فلأغرق فيكِ، ولتغرقي في حفرة اللَّذة العمياء، إنها غيمة القُطن التي سَنَتمدَّد عَليها. حواسّنا لن تَستيقظ قبل صياح وعكتنا، فلنَنم عَاريين حتّى إذا ذبنا في شَمس غريبة، نختلط جسدًا بجسدٍ، ونصبح بقعة هائمة. إنَّنا أرقْنا كثيراً، وكدنا نُمسي طَيفيْن، يطويهما الخَواء عندما يهبّ، ويَمحوهما الضوء عندما ينسلُّ من النافذة. أرقْنا حتَى أصبَحنا بزُرقة الفَجر المنتحر، ومزاج حادٍّ كالمعدن. لِنَنَم قبل نحني الظهيرة، قبل أن يشيخ الصَّباح وتقفر سماء الليل. لِنَنَم قبل تنتهي ما ندعوها الأيام. إنَّني أُهلوس، أعرف، ربما أنتِ تُهلوسين، ربَّما کلانا معًا على حافة جسدَين، هما لنا، بعدما نالت منا قيلولة الرَّعشة أو ما بعدها بقليل.






المنسيُّون

أحبُّ الشعراء المنسيِّين
الذين لا يَطرق بابهم أحدٌ
الشُّعراء الذين وقعوا باكراً
في حُفرة عُزلتهم
الذين أَغلقوا دفاترهم
لئلا تَقرأها عَينَان
الشُّعراء الذين طَووا أيامهم بالسرِّ
لئلا يَسمع وقع خُطواتهم
حجر أو شجرة
أولئك الذين كأن لم يكونوا
قصائدهم بلَّلها برد الليل
 حِبر أصابعهم محاه الظلام
آثارهم حَملها الهواء
إلى ما وراء المملكة
الشُّعراء الذين لم تبق لهم أسماء
ولا وجوه، ولو بالفحم
الذين امتزجوا برحيق تُرابهم
الذين أصبحوا ليل الشعر المُشرق من أحلامهم
الذين على حافة الأرض يقفون
 ليبصروا نوافذ، كانت لهم
دروباً ومقاعد.

أحبُّ الشعراء المنسيِّين
الذين أوقدوا أسرجتَهم باكراً
وبدلاً من أن يناموا
 راحوا يطوفون أطراف عالم
أبعد من نظراتهم.


شبح

لا وَجهَ لي أراه في المرآة
لا عينيْن لي أُخبِّئ فِيهما سَماءً
الشُّعاع الذي عبر محا صورتي
 وصرتُ كالطيف لا يُبصره أحد
أعبر أبواباً مُغلقة
الجدران لا أترك فيها أثراً
والسياج لا يجرح يَديّ.
إذا لَفَحَني هواء
أترنَّح خفَّةً
أُحلّق قليلاً
ثم أسقط كورقة خريف.
إنَّني الشبح
الذي فَقَدَ عينَيْه
قبل أن يخرج من الظلام.

عينان

السرّ لا تبوح به عيناكِ
مهما فتحتِهما
مهما أغمضتِهما
مهما دمعَتا
هاتان العينان
بأزياحِ شَغفِهما
الواضحتَان بمَائهما المَجروح
المُتلبِّدتان بِصفاء ينبوع 
المُشرقتان خلف سحابة
النَّقيَّتان بشغف المجهول 
المُبهمتان حتى الفجر.

السرّ لا تبوح به عيناكِ 
عيناكِ هما السرّ 
الذي يَبوح بزرقته.




*نص: عبده وازن
*من ديوان: لا وجه في المرآة

زر الذهاب إلى الأعلى