ماذا تفعل في وقت فراغك؟
لم أعد أرغب بالكلام. الرسائل تناسبني أكثر، تناسب رغبتي في الانفلات من الحياة. لن أقول “بعد التحية” أو “هاللو”؛ لماذا استأثرت بكل الوحدة لنفسك، تعلم أن الحياة مرهقة جداً، بكل هذا التواصل مع البشر.
الرسالة تتسرب من رأسي، أحاول التحرر من قيود الشعر والقصيدة، أعلم أن الثانية ظهراً ليس موعداً مناسباً للرسائل، لكني أظن أن الكتابة إليك مهرب جيد من غسل الأطباق أو نشر الملابس على أحبال الغسيل، الحرارة ستصهرني، سأقول للملابس والأطباق بحسم: “انتظروا؛ أكتب الى الله” سترتعب الملابس والأطباق من الخوف والرهبة، وأنا لن أفعل أكثر مما أفعله كل يوم، أفكر فيك عندما تنغلق كل الدوائر حولي.
الدوائر المغلقة تربكني، للأشكال الهندسية الأخرى زوايا ترشدنا لنقاط الانطلاق.أكتب لك من عشرة أيام، لماذا لم تستجب،عندما أتوقف عن طلباتي؛ ستفقد جزءاً من مهامك، يبدو أنك ترغب في التخفف.
أمي لا تصدق في رسائلي، تظنها تطاولا ًعليك، هي لاتتوقف عن الصلاة ولا عن النصائح، أنا لا أكف عن الملل.
تصلي أكثر مما تحتمل حياتها الضيقة، لم أكتشف بعد ما تستغفر لأجله لكني أثق أن عندها كثير من الأسرار، تنهرني، تخبرني أن الصلاة عبادة أما الرسائل تطاول، أخبرها انني استبدلت الدعاء برسائل تخصني أنا وحدي؛ تجعلك أكثر قربا مني، سيتداولها الناس على الأرصفة بعنوان “ماذا تفعل في وقت فراغك؟”.
***
لماذا لا تأتي واضحاً كالألم؟
ماذا يقولون عن الحقيقة؟، يخبروني أن الحقيقة تحررني
أرغب بقوة في التحرر . ..أنت تتحمل عبء المعرفة
ترى.. هل سيتحملون؟
أعلم أن مراسلتك ليست بالشيء السهل، هل تحب الموسيقى؟، ذاكرتي مازلت تحمل قليلاً من ذكريات الحفلات الموسيقية وحفلات الأوبرا، في زوربا لم أفكر بك طوال الوقت؛ الحركات السريعة تخرجني من دائرتك، والبطل كان أجمل من أن أفقد وجهه من أجل لحظات تعبد. في هايدن فكرت بك كثيراً، كنت أكثر قرباً منك أثناء الفواصل بين انسياب المقاطع الموسيقية، تعرف هذا العدم الذي يغمرنا عند صمت الموسيقى، مناسب تماماً لتذكرك بشكل رومانتيكي جداً.
أنا أفتقدك. أفتقد الموسيقى والأماكن، أفتفد الأفعال ولا أفتقد البشر، أفتقد التمشية دون الصحبة والبوح دون من يسمعني. كل يوم يقذفون في وجهي أحجاراً تطير من أفواههم “وحشتينا يا سارة”، “وحشتيني ياسارة “، “وحشاني ياسارة”. الأحجار تتكاثر فوقي، مظلتي الواقية لا تتحمل الأحجار، لكنها مازلت تنفتح من تلقاء نفسها في محاولات واهية لإتمام دورها.
عندما أصبح في الأربعين، ذكرني أن أجلس بجوار الهاتف لأعيد إليهم كل أحجارهم الملقاة علي، بعد أن أنتهي من مراقبة المكالمات الهاتفية لابنتي المراهقة، وبعد أن أعتاد على وجه أمي المتجهم دائما، أظن ان الابتسام يرهقها، يؤرجحها على أبواب فرح لم تعد تذكره، تخشى أن تعتاد عليه، الطبيب أخبرني أن الحزن ينمو ويتقيح في جسدي ،في ساقي وذراعي ورقبتي.
أمي تتجهم من جديد لأني أصرخ في وضاعة الحياة وأنا أصرخ وأصرخ، الهيستريا لا تتوقف، رنين الهاتف يؤججها. رسائل العتاب والعشم تنهكني فأصرخ من جديد.
أنا ممتلئة بي أكثر مما يظن من حولي، أنا رسمة مسطحة على جدار الحياة ولا أطمح في أكثر من ذلك، شاشات إل إي دي ونظارات البعد الثالث تملأ الأسواق الكبرى، لماذا تجعلهم يصرون على انتزاعي من على جدران الحياة، كإصرار الطبيب على انتزاع دائرة القيح من منتصف فخذي.
يخبرني أن النقطة البيضاء هي مركز الألم، النقطة البيضاء في قلب الدائرة تطاردني تشبه عيناً دائرية، عيناً تخترقني لتعرف أكثر، الألم يأتي كلما تذكرته، لماذا لا تأتي أنت أيضا واضحاً كالألم؟. ساعي بريدك أكثر وضوحا منك، لا أظن أن لخطي السيء علاقة بتعاملك مع رسائلي، ربما النقطة البيضاء تشوش الرؤية، هل تشوش النقطة البيضاء الرؤية، أم أن حبيبات العرق التي تحيط بي تحجبني قليلا عن الإجابة، أمي المتجهمة تقول “افتكاره رحمة” أرجو أن تبحث في المعجم عن معنى الرحمة من جديد.
***
اختفاء؟
في المرة الأخيرة نظرت كثيراً في المرآة حتى اختفيت.كررت كل الكلمات حتى أصبحت بلا معنى وتناثرت الأحرف وطارت في الهواء، الأحرف تدفعني لأسفل، لا ترغب في صحبتي، أسقط على السيراميك البارد فينصهر من حرارتي المرتفعة ويشمئز من سعالي المستمر.
يقذفني من الشباك المستعد للاستغناء عني دائماً. السحب تتكاثف لتمطر فوقي، وملابسي الثقيلة تقيم عرضاً للأزياء على حافة نافذتي بدوني.“وااو”، يقولها البالطو للفستان وهو يتمشى متبختراً فارغاً مني، الجينز يبدو متأنقاً دون جسدي المنتفخ، حتى الحذاء الرياضي خفيفاً بدون خطواتي الثقيلة.هل ترى كل تلك الأحرف التي تغادرني، ترفض أن تكون جزءاً من رسائلي إليك، الصغيرة في داخلي التي ترفض أن تحررني منها الآن.المناديل الورقية المتكومة حولي.النغمات التي تهرول لتخترق أذني دون رغبة مني.أنا أنسحق تماماً مثل دودة أسفل إصبع ضخم، هل تراني، أم أنا كائن خلق فقط للتجاهل؟
***
كونديرا وطنط فريال
لماذا تُقحم بول إيلوار في أحلامي وأنا أفكر في ميلان كونديرا. طنط فريال جارتنا القديمة كانت تقيده في كرسي المطبخ الخشبي وتجبره على قراءة القصائد لها وهي تدق الكفتة في الهون القديم، أنا أحاول اصطياد الصخب لأحبسه داخل إناء الطبخ، لكنني أفشل ويتمدد الصخب من حولي ليندمج مع رائحة الثوم والكمون.
بول مازال يردد:
“قوسُ عينيكِ يُحيطُ بقوسِ قلبي،
حلبةَ رقصٍ ونعومة،
مكللةً بهالةِ الزمانْ، مهدَ ليلٍ آمنٍ،
وإن لم أعد أذكر يوماً كل ما عاشته عيناي في هذي الحياة،
فذلك لأن عيونكِ لم تكن قد رأتني”.
طنط فريال لا تعجبها القصيدة، مع كل سطر لا يعجبها يسقط اصبع من أصابع بول ليستقر في إناء الطهي وتفشل كل محاولات أصابعه للتمرد والصعود من جديد خارج الإناء.
هي مازالت تمارس عادتها السرية على صدى صوته وعلى رائحة الشامبو الفرنسي المنبعثة من شعره، لكنها لا تتوفف عن جعل أصابعه تتساقط.
كونديرا كان يتابع الحلم من على حافة نومي رافضاً أن يكون شريكاً في حفلة جنس جماعي، مفضلا على ذلك متابعة فيلم saw مع بعض كوؤس النبيذ.
كنت أعلم أنه هناك لكنه لم يحب الصخب. أيها الصخب، هل لك ضحايا غيري تلتهم أحلامهم وتبدلها كما تشاء؟
الصداع يرسم خريطة معقدة على جبهتي ونصف وجهي الأيسر، الصخب يغرس روؤسه الحمراء لتضيء الأماكن الملغومة في الخريطة قبل أن تنفجر.
كونديرا مازال هناك على الحافة يتابع حركة بول العصبية وهو مقيد بالكرسي الخشبي ويراقب وجه “طنط فريال” المنتشي بعينين تخترقان جلدها الأسمر اللامع، ويقذف لي قبلة من على الحافة كلما انفجرت نقطة حمراء في وجهي، بهدوء يسحبني معه داخل المشهد الدموي لنبحث معاً بين أشلاء الضحايا عن بعض الأصابع المناسبة لبول الذي مازال يردد “قوس عينيك يحيط بقوس قلبي، ومازالت أصابعه تتساقط داخل الاناء”. كنت أظن كونديرا متعاطفاً، لكنه أخبرني “كم هو ممتع مشاهدة الأصابع وهي تسقط من جديد”.
كونديرا يعرفك جيداً وبول كان وجوده واجباً داخل الحلم، الآن أدركت ذلك.
*رسائل: سارة عابدين