انتحارٌ للكاتبة – دعاء سويلم

يقول تلمان جينز:

” الشّعراءُ غالبًا ما يُقدمون على الانتحار، ونادراً ما يقدِمُ عليه المحامون والحرفيون والمعلمون، وكأنّ الانتحارَ خاصيَّةٌ وظيفية للكتاب والشعراء. اختيار الموت باعتباره آخر صفحة من رسالة الحياة، وبوصفه نهاية سعيدة، يصنعها مبدعون تتماهى كتاباتهم مع الحياة؛ فيعجزون عن الاستمرار في الكتابة، ويشعرون بعدم قدرتهم على مواصلة العيش، لعدم جدوى الاستمرار بالحياة، ما يدفعهم لوضع النهاية لها ومغادرتها طوعًا”.

كثيرًا ما كنتُ أسأل عن السّر وراء ربط الإبداع الكتابي بالانتحار؟ لا أنكر بأنني حاولتُ كثيرًا فعلها، ولكن كلُّ محاولاتي باءت بالفشل، كنتُ أخاف من استخدام أدوية أبواي، فما ذنبهم إن متّ؛ أن يعيشوا يومًا أو أسبوعًا بلا دواء، وحالتنا الماديّة سيئة؟

وإن استخدمتُ شيئا حادًّا مثل شفراتِ الحلاقة أو السّكين، ما ذنبُ أختي أن تمسح الدّماء التي تخصني؟ وأنا طوال عمري، لا أحبّ أن أكون ثقيلة حتى على نملة تمشي في حالها.

ولو شنقتُ نفسي باستخدام المروحة الكهربائية، من سيرتدي من بعدي اللفحة التي استخدمتها، والشّتاء على الأبواب؟ حياتي، آهٍ يا لها من حياة، فشلتُ في كل شيء، حتى في الحياة العاطفية مثل “ماياكوفسكي”. إنني أنشر كل ما أفكّر به، مثلما نشرت “غادة السّمان” رسائل “غسان كنفاني” توقعت الجحيم المنتظر، مثلما توقعه “والت ويتمان” يوم طولب بجلده أمام الناس عقابا على ديوانه “أوراق العشب” فقال: “توقعت الجحيم ونلته”!

أنا جبانة، هشة، صدقوني، أكتب لأتخلص من البشر والأشياء تماما مثل “فلوبير”. هناك رغبة في الكتابة ضد الحياة، ضد المبادئ، ضد الأخلاق حتى، وأي أخلاق ونحنُ نعيش في الظّلم؟ أين العدل؟ أين الآلهة التي ستخفف أحزاننا أم أنها مشغولة في الوهم والأساطير؟ هناك شرٌّ في كلماتي، مثل شر لوتريامون. يجب أن ينتهي كلُّ هذا الذي في قلبي؛ لأستطيع العيش ولو للحظةٍ واحدة. ما نحنُ إلا رغبات، نشتهي السّعادة الزائفة شهوةً.

اليوم، تخلصتُ من كل شيء له علاقة بي، ولكنني إلى الآن لم أتخلص مني، حتّى في موتنا يجب أن نهتم بالآخرين، هل يمكن أن يتخيّل أحدكم حجم المعاناة لنحصل على الخلاص؟

لو أمكننا التقاط المنتحرين من قبضة الحزن؛ لكانوا الآن معنا ! لو كان لصوتهم حماية؛ لأمكنهم المقاومة لأجل مقعد الانتظار ! كبر ذعرهم، وغرقوا بالضحك الهستيري، وعاث بهم الاختناق فسادا، لم يستطيعوا أن يهربوا من أنفسهم، كل ما حلموا به حزنا جديدا بعيدا عن خيبتهم المتكررة في ارتداء وجههم الفارغ كل يوم ! أسأل بلزاك ما الانتحار، فيقول: ” كل انتحار هو نظام راق للحزن” ! أحاول أن أقتله من جديد بيدي، عسى ألا يسمعه الأطفال والمهمشين، فيهمس لي ماركيز ربما هو، لم أركز بالصوت جيدا، يبدو أنه قال سينتحر في الساعة السادسة مساء، وسيظن الناس أنه حادث سير، وهو عائد من حفل كتابه الذي ألفه حديثا، اسمه “كورونا والجحيم” ! آه منك يا ماركيز، حتى بعد وفاتك، تريد أن تقول بأن القهوة غير صالحة للأموات؟!

فتقاطعني سيلفيا بلاث، قائلة: ” الموت فن على غرار كل ما عداه وإني أمارسه بإتقان… أمارسه حتى يصير جهنم أمارسه حتى يبدو حقيقة في وسعكم القول إنه دعوتي ” . فأنهزم بالحوار، وأعود محملة بثقل رأسي، فلو أمكنني مصارحتهم أنني أحبهم؛ لربما آمنوا بالحياة ! هناك من سنحميه، علينا أن نتحرك بسرعة، قبل أن يترك أحدهم المقعد فارغا، بالرسالة ذاتها، وبالخط المتعرج ألما.. _ ” لم أكن أريد ذلك، لكنه الخلاص، أنا متعب يا رفقاء الجحيم”!

****

أنوي الانتحار من حافة السرير سقوطا على الأرض فينتهي كل شيء، ولكني أفشل بعد التفكير بالاحتمالات، هذه الأرض لا أحد يموت عليها بكرامة، تحبّ تقبيل الأحذية وتتجاهل الأرواح.

أم كلثوم تبعث رسائل تحذير، ولا أحد يكترث! تحذير من الحب؟ من الخوف؟ من الحيرة؟ من العمر؟ من النسيان؟ من الليل؟ فأمسك بالباب جيدا كي لا يدخله أحد، هناك صوت لا شكل له يحاول التسلق، يعيشُ في الماء والهواء، أرفع وجهي تجاه سقف غرفتي بكل خوف، إنه ينتظرني!

عيوني تنتفخ، ليس من البكاء، بل من تشققات جلدي، هناك من يتوحد مع كل جزء بداخلي، فإلى أين أهرب بروحي؟ تحت أظافري؟ لبيوت الله؟ هل أنا سارتر كي أنسى همي وأتوحد مع هموم غيري؟ هل أنا تشيخوف كي أهتم بالوقت وينساني الفراغ؟ هل أنا فرجينيا وولف لأكتب رسالة انتحار ثم ألقيها في البحر؟ هل أنا طاغور ليحبني الناس كما أنا بلساني المقطوع؟

لا جواب.

زر الذهاب إلى الأعلى