حدثٌ شائع أن يقوم المبدع بإنتاج أو نشر إبداعه ذاتيًا، وهذا معروفٌ في عالم السينما أكثر، بداية من تشارلي تشابلن Charlie Chaplin الذي كان يُنتج بعض أفلامه التي يمثلها ويكتبها ويخرجها أيضًا، مرورًا بعددٍ كبير من صناع السينما أمثال الإيراني أصغر فارهادي Asghar Farhadi، والمصري يوسف شاهين، والأمريكي مارتن سكورسيزي Martin Scorsese، والإنجليزي كريسترفر نولان Christopher Nolan، والأمريكي ستيفن سبيلبرج Steven Spielberg، والإنجليزي ريدلي سكوت Ridley Scott والتشيليّ اليخاندرو جودرفسكي Alejandro Jodorowsky.
افتتح في مدينة يورك في أغسطس الماضي وفقًا لصحيفة الاندبدنت معرضًا فنيًا لعرض نسخ أصلية من الكتب التي قام كتّابها بنشرها في طبعات خاصة وضم كتب لكتاب أمثال فيرجينيا وولف وإزار باوند ومارسيل بروست ووالت ويتمان وإيملي ديكنسون وجين أوستن وديريك والكت، وهذا المعرض سبق أن أقيم في لندن تحت عنوان Do Or DIY فيما معناها افعلها ابنفسك Do It Yourself، لعبًا على تعبير Do Or Die أي افعلها أو مت..
والإحصائية التقريبية تقول إن النشر الذاتي يساهم بأرباح مليار دولار سنويًا في سوق الكتاب الأمريكي الذي تبلغ أرباحه 25 مليار دولار سنويًا.
لا يقتصر هذا في أمريكا على طبعات محدودة فعلى سبيل المثال رواية Fifty Shades of Grey التي باعت ملايين النسخ حول العالم، وتقلدت مكانها في قائمة نيويورك تايمز للكتب الأفضل مبيعًا، نشرها كاتبُها إي إل جيمس ذاتيًا.
الآن تتيح شركة أمازون للكتاب أن يقوموا بنشر كتابهم ذاتيًا مباشرة معهم، كما توجد وكالات لتسهيل عملية النشر الذاتي، ودور نشر تقدم خدمة “Publish On Demand” “POD أي النشر بالطلب، وهي أن يدفع الكاتب التكلفة، ويختار موعد نزول الكتاب بنفسه، ويحصل على النسبة الأكبر من الأرباح، حدث هذا مع الروائي الشهير ستيفن كينج Stephen King مثلًا.
في العالم العربي انتشر مؤخرًا أن يدفع الكاتب مقابل النشر، لكن بصورة غريبة جدا، أن يدفع الكاتب وتختار دار النشر موعد نزول الكتاب وتحصل أيضًا على الأرباح.. خراء.
***
مؤخرًا قامت إحدى كبريات دور النشر المصرية بحذف أكثر من خمسين صفحة من رواية لواحد من أشهر الكتاب المصريين لدواعٍ من الممكن أن يقال عليها أمنية، كنت اطلعت على مخطوط الرواية وعليها بعد نشرها، واتصل بي الروائي يحكي لي المشاهد التي حذفت في حزن، لماذا يرضى بهذا؟ لا أعرف.
دار نشر أخرى وقعت مع روائي كبير، وكان اشتراط الروائي فيما معناه أن يكون هو بطل الدار وكل كتاب الدار الآخرين كومبارس بجواره، وانتهى الأمر بينهما بالانفصال لأن هذا الكاتب لم يجد هؤلاء الكتاب الآخرين كومبارسات بما يكفي لإرضائه.
لا يبدو حتى عربيًا أن النشر مع الدور الكبيرة يحقق لك الانتشار المؤكد، فهذا خاضع لرغبة الدور،
بعض هذه الدور يمكنها صناعة كاتب كبير وبيست سيللر بالإكراه دون اعتبار ولو بسيط للمحتوى، وبالتواجد المفرط على السوشيال الميديا والمكتبات بل وبالاتفاق مع مزوري الكتب.
**
تبدو مقولة “ما يريده القارئ” على غرار “ما يطلبه المستمعون” الأكثر تداولًا عند الكلام عن تسيد نوع معين من الكتب مثل أدب الرعب، لكن واحدًا ممن يحتج بهم لتأييد هذه المقولة عاكسها تمامًا وهو الكاتب أحمد خالد توفيق إذ قال في إحدى حواراته إنه وجد هذا النوع من الأدب غير موجود عندنا، فقرر أن يدخله؛ أي أن الصناعة الأولى لهذا النوع تبدو كأنها قرار فوقي من كاتب وليس استجابة لقراء هذا النوع الذين لم يكونوا موجودين حينها بطبيعة الحال، هؤلاء القراء الذين يفسرون بأنفسهم سبب شيوعه بأنهم إذ كانوا صغارًا في التسعينات، كان العالم بالنسبة لهم وكأنه جزيرة معزولة لا يصلهم فيه إلا كتب أحمد خالد توفيق؛
هذه الكتب التي كانت ضمن سلاسل المؤسسة العربية الحديثة للنشر والتوزيع التي أطلقت على سلاسلها هذه اسم “مشروع القرن الثقافي”، ويبدو أن هذه الدار القديمة التي تأسست عام 1960 والناشرة أيضًا لأكثر الكتب الدراسية شيوعا بين الطلاب “سلاح التلميذ” قد نجحت في مشروعها الثقافي.
***
يُروى عن نجيب محفوظ، وهو أكثر كاتب في الأدب العربي الحديث رُوي عنه، لدرجة أنه يمكن مع الزمن تصنيف علم حديث وعلم رجال ورواة له كالذي للنبي محمد.
المهم، يُروى عنه أنه كان يتابع مع بائع مبيعات إحدى رواياته والتي مر وقت طويل حتى بيعت نسخة واحدة من ثلاث نسخ متوافرة لدى البائع، ويروى أيضا أنه عندما اقترب من سن المعاش عرض على مؤسسة النشر الحكومية حقوق نشر كل كتبه مقابل مبلغ لا يبدو كبيرًا ورفضت المؤسسة، والآن تتصدر كتبه واجهة مكتبات دار الشروق وكل المكتبات الأخرى وكل رفوف أي مكتبة، فيما يغيب من سواه من أجيال أدب المصري والعربي، اللهم إلا في حالة الشروق يوسف زيدان الذي قال بلسانه إنه حصل من دار الشروق على مقدم تعاقد مليون جنيه عن إحدى كتبه غير الروائية، وإذا كان لمحفوظ مبررات مستحقة كثيرة لهذا التواجد، وكذلك لزيدان مبررات الجودة، فإن كاتبًا كأحمد مراد الذي تم صناعته في الشروق بل وإيصال رواية كالفيل الأزرق لجائزة البوكر العربية، جائزة البوكر المستحوذ عليها من الناشرين الكبار، يكون دليلًا على الشيوع الزائف بالإكراه، كمثيله بدرجة أقل في دار نشر مصرية كبيرة أخرى وهي المصرية اللبنانية، الذي كاد أن يُعلن عن نفاذ طبعة هذا الروائي الثانية قبل الأولى، وطبعته الثالثة قبل الثانية بطريقة كوميدية، لكن هذا بالتأكيد أخف من طريقة دور أدب الرعب والرومانسية المتبعة للقيم الإسلامية التي تكاد تصدر الطبعة العاشرة مباشرة.
***
في إحدى المرات عندما قام القراء باستلام دورهم في سرقة الكتب برفع الكتب إلكترونيًا على المواقع، قام ناشر له علاقة بالأمن بتهديد من يزوّر كتبه إلكترونيًا كي يغلق الموقع، وهو ما حدث.
هناك سلسلة من السرقة تحدث، من الكواليس أعرف مكتبات تقوم بطباعة نسخًا من الكتب بعد استلامها، دون رجوع للناشر الأصلي، ثم تقول للناشر إن نسخك لم تُبع كلها، وهي التي قد باعت منها بالفعل وباعت مما طبعته بالتزوير.
ولا أعرف هل كان الحل للروائي الشهير الذي ذكرته أعلاه والذي حذفت خمسين صفحة من روايته أن ينشر ذاتيًا في طبعات خاصة؟ خصوصا أن هذه الدار التي حذفت لم تروج روايته كما روايات زيدان أو مراد؟ ومشكوك أن ترسل له أرباحه الحقيقية من البيع، هذا إذا أرسلت من الأساس.
سلسلة السرقة هذه أصبح فيها الكاتب هو المسروق الأكبر يليه القارئ ثم دار النشر، بينما تصبح المكتبات الرابح الأكبر، في سوق يبدو كاسدًا وبلا أي إحصائيات خاصة بالإنتاجية والربح.
***
التيار الرئيسي من الكتاب الأقدم أو الأحدث ظهورًا عربيًا يظهرون ميلًا كبيرًا للتناغم مع واقع النشر، بل ويستمرون في ترسيخ مساره المهيمن من عشرات السنين، حتى أنه لا يظهر هذه النسبة التي تظهر في أمريكا ممن يعتمدون النشر الذاتي، وإذا وجهت لهم سؤال: هل مساحات الحرية القليلة هنا كانت عائقًا أمامك في النشر والكتابة؟
فإجابتهم: لا لم تكن عائقًا؛ وليس هذا مستغربًا جدًا، فما يقدمونه في أعمالهم من الممكن أن يُجاز بسهولة جدا من لجنة مشكلة من حزب البعث العراقي أو الحزب النازي.
هل يبدو الهاربون القليلون من صناعة النشر العربية جميلون حقًا؟
نشر الشاعر المصري عماد أبو صالح كل دواوينه في طبعات خاصة بغلاف أبيض عليه رسمة صغيرة، ووزعها بيده، ومع ذلك يبدو أكثر شعراء جيل التسعينات المصري رواجًا وتأثيرًا.
ووديع سعادة اللبناني الذي طبع ديوانه الأول في طبعة خاصة، وجلس يبيعه في شارع الحمراء ببيروت في الثمانيات، ثم أصدر أعماله الشعرية إلكترونيًا مجانًا، منذ أعوام قليلة والذي يبدو أيضًا الأكثر حضورًا فيما بعد أجيال مجلة شعر اللبنانية.
قال كاتبٌ أمريكي عندما سئل عن تصاعد ظاهرة النشر الذاتي في أمريكا: إنه من خمس سنوات كان النشر الذاتي ندبة، أما الآن فهو تاتو.