مال الولد وهو يتفرج على التلفزيون وسألني:
- صحيح يا بابا، إنت ليه ما كملتش تعليمك؟
ثم اعتدل يواصل الفرجة.
وأنا الذي فاجأني السؤال، بعد هذا العمر، جلست أفكر في هذا الأمر.
فكرت في المدارس السبع التي التحقت بها، بذكرياتها الجميلة والمؤلمة، واستعدت، من فوري، واقعة القلم.
فلقد حدث أنني كنت مجنوناً، منذ زمن لا أذكره، بقلم الحبر، والذي كان معروفاً على أيامنا باسم “القلم الأبنوس”.
لا أعرف من أين جاءني اليقين بأنه معجزة مبهمة، عصية على الإمساك، ناهيك عن الفحص.
ثم شاءت الأقدار، أن جاء زوج عمتي من البلدة لزيارتنا في إمبابة. كان في سن أبي، ويعمل ناظراً لدائرة زراعية.
كنت طفلاً، وكان أبي قد أحضر له جلباباً خفيفاً لكي يرتديه زوج شقيقته فترة السهر والنوم، وأنا رأيته يخلع الجلباب الصوفي، وقبل أن يخلع الصديري رأيت في جيبه العلوي مشبك تلك الأعجوبة المسماة “قلم أبنوس”.
لا أذكر إن كنت قد ادعيت النوم حتى ناموا، أم أنني نمت فعلاً وقمت وهم نيام، ولكن ما أذكره جيداً أنني تسللت إلى ثيابه المعلقة، ونزعت القلم من مكانه في جيب الصديري وجلست في ركن الحجرة أتفحصه في العتمة، أفتحه وأتأمل السن الذي يكتب، وأتلمس جوفه الممتلئ حبراً. وبعد أن اكتفيت من الفرجة أعدته إلى مكانه في جيب الصديري.
لا أذكر لونه، إلا أنني أرتجف الآن وأنا أفكر في موقفي لو أنه قد استيقظ ورآني أعبث بثيابه.
المرة الثانية التي صادفت فيها ذلك “القلم الأبنوس”، كانت في إحدى المدارس التي التحقت بها. كان مع واحد من تلامذة الفصل. وكان يحتفظ به في درجه المغلق. وعندما كان يفتح القفل بالمفتاح ويخرج القلم، كنت أنتقل من مكاني وأنضم إليه مع بعض الأولاد، أتفرج عليه وأطلب منه أن يسمح لي بالإمساك به وتفحصه.
في أحد الأيام جاء الولد ووجد الدرج مكسوراً، والقلم اختفى.
أنا لم أنتبه لما حدث، إلا أنني لاحظت أن الأولاد، وكانوا يجلسون أمامي في الناحية اليمنى من الفصل، يلتفتون نحوي ويتهامسون. وعندما دخل المدرس، قام الولد وشكاني بأنني أخذت القلم. واستشهد بزملائه الذين قالوا إنني كنت شديد الاهتمام به، وقال آخر إنني فعلاً الوحيد الذي كان: “نفسه فيه”.
والمدرس طلب مني الوقوف.
لا أذكر أنني تكلمت.
ما أذكره أن الدموع انهمرت من عيني وأنا واقف، ولم يكن معي منديل، وجففت عيني وأنفي في كم القميص. وصاح المدرس، وكان معمماً، وله جبة:
- إخص. الله يقرفك.
وأشار بيده إلى الباب:
- اخرج بره.
ما أذكره أنني مشيت حتى مقدمة الفصل، وجريت.
ربما ما زلت أجري حتى الآن.
إبراهيم أصلان