تحفة فنية عنوانها المنزل (مختارات قصصية) – ندى عبدالرحمن

تحفة فنية عنوانها المنزل


كان المنزل أشبه بتحفة فنيّة، الأبناء يستلقون على الأسرّة كجثث هامدة بريشة فنان يحاكي الموت. الأم لا تغريها الأماكن الأخرى، بقرب النافذة تصوِّب نظراتها نحو الفراغ. قد تحاسب نفسهَا سراً على عدد النظرات التي أهدرتها في حراسة خطوات الزوج، أو الوقوف طويلاً أمام طبق طعام. لا يظهر من الأب سوى ظهره. كل من في اللوحة بما فيهم الأبناء الذين قرروا أخذ استراحةٍ أبدية من اللعب في أرجاء الردهة الخلفية. تساءلوا في لحظةٍ سابقة، كم ضربة سيضربها الرسّام بريشته ليلتفت الأب؟


كلما غادر المنزل عاد بلا خطوات


كاد يفقد قدميه إلى الأبد. كلّما غادر المنزل عاد بلا خطوات، يتذكّر أنه توقف طويلاً أمام متجر لبيع الخردوات، ربما استبدل خطوته الأولى بإطار قديم للمّ شمل عائلته، أو ربما ابتاع حلوى لطفولةٍ لا يعرف عنها شيئًا، إلا أنه لم يعشها ودفع خطوةً ثانية ثمنًا لها. أثناء خروجه ارتدى حذاءً ضيّقًا، قد يعثّر هذا الحذاء رحلة البحث عن خطواتٍ ضالّة. أفرغ خطواته المتبقية والتي أنفق طفولته يتدرّب عليها أسفل الخزانة. أنفق معها تعليمات والديه لكي ينهضَ ويبدأ خطوةً جديدة. عند عودته أضاع المنزل، سقط أمام عتبة بابٍ لا يألفها. لم يكن بوسعه أن يعيد شريط طفولةٍ مضَت في كسب المزيد من الخطوات أو سماع تعليمات أبوين يلقّنان طفلاً آخر كيفَ ينهض.


اسم بلا ملامح


لقد عرفته لسنوات طويلة، مجرّد اسم، بلا ملامح، بلا صوت أيضًا، اسمٌ ما إن أقرأ حروفه حتى أصابُ بتخمةٍ في الشعور كما لو أنني تناولتُ وجبةً دسمة، أو خدر في اللسان لما يحملهُ من معان كثيرة، وأحيانًا كنتُ أصابُ بالأرق في الليالي الأولى بسبب لحنٍ صغير في نطقه. ولكن.. ظللت أردده، لأيام، لأسابيع، لشهورٍ طويلة وأكثر، حتى اعتدتُه وألِفته. لم يكن ذلك عشوائيًا بل التزمتُ بقراءة تلك الأحرف في الساعة نفسها التي صادفتها فيها، حتى ظهرت عليه يومًا ملامح السراب أو صفاته، فلم تلبث تلك التخمة إلّا أن تلاشت، والخدرُ حتى زال، حين اقتربتُ في محاولة لمسهِ أو النقر عليه من خلف شاشة، فظهر بجانبه تاريخٌ قديم لسنين غادرناها معًا، تلميحٌ أن صلاحية إجابة النداءات لهذا الشخص قد انتهت منذُ وقت طويل.


غرفة انتظار


في إحدى غرف الانتظار دخلتُ وقد سبقني مجموعة من الأشخاص. أتذكر أني خرجتُ، وقد تركتُ جسدي كلّه في تلك الغرفة، حدث ذلك أثناء نهوض أول الجالسين ومغادرته الغرفة ناسيًا ظلّه مضطجعًا ليحجز هذا المقعد باسمه طوال العمر. ظننا جميعًا أنه فكّر في تزيين المكان، لذلك من الإنسانية عدم ترك نسيانٍ واحد بمفرده. حين خرج الشخص المجاور له تعمّد نسيان نظرته كشقٍ على الحائط. تلاه آخر ظلّ يتعرق طوال الوقت، من المحتمل أنه صاحب اللمسة التي تركت مقبض الباب يغلي. من تبعه في الخروج تعرف أنه بخيل من أول نظرة، أوجد لنفسه أعذاراً تنقذه من مواقف كثيرة، لذلك فهو يحتاج الآن لقطعة القماش التي بحوزته ليمسك مقبض الباب الساخن. في الزاوية كان يجلس أكثرنا كسلاً وبدانة، أثناء التهامه وجبةً دسمة قضم أحد أصابعه. حين غادر استُخدمت تلك السبابة لتكمل نقص الشموع على الرف. بقيتُ وحدي في الغرفة أفكر بم قد أساهم في تزيينها. لكنني لم أسمع اسمي قط لذلك خرجتُ مسرعاً ناسيًا جسدي كله لأستعيد اسمي من غرفة سابقة.


*نصوص: ندى عبدالرحمن

زر الذهاب إلى الأعلى