يأتي الحب – ريهام عزيز الدين

يأتي الحب، 

تتحقق النبوءة، تشعر بدغدغة نسمة رقيقة في ليلة صيفية شديدة الحرارة، 

نسمة تجد طريقها بين ثنايا الفستان القطني الملتصق على جسدها بفعل الرطوبة العالية وبين جلدها الذي يتنفسُ للمرة الأولى منذ أزمنة.

يأتي الحب، 

تشعرُ أن ثمة وجودٌ يتشكلّ، وجودٌ قد يكون له نفس الوجه، غير أنها كلما مرّت على مرآة أطالت النظر لوجهها، ثمة ابتسامة ترتسم، وثمة غلالة رقيقة تكسوها وكأنها تأريخ للحدث. 

يأتي الحب، 

يتفتتُ العالم الذي خَبِرَته من قبل، فضاءٌ مُمتلىء بصورٍ ليست لها، وأعينٌ مُجوفة تنظر إليها بلامعنى وأفواهٌ تسردُ كُلَّ ما يُمكن تعبئته في الهواء من صخبٍ وتشويش. يتفتتُ العالم بأسره مثل ذرات رمال زارتها موجةُ مياهٍ بلون زُرقة السماء، فلثمتها لثمًا فأتبع الوجود الفناء دون أدنى مقاومة.

يأتي الحب، 

ويأتي معه ذلك الشعور بأنّ العالم أصبح أكثر اتساعًا، وأنّ ثمّة لون يُمكنُه أن يُعيد تأريخ الخليقة، 

وأنّ الآن، والآن فقط يبدأ كل شىء، يولد كل شىء، 

هلمّ أيها الفرح، أقبل نحونا.

يأتي الحب، 

وتنهار الأيدولوجيات التي تتمترس حول أفكارٍ خائفة بين يدىّ ساعاتي يحرص ألايُفلت الترس الصغير منه وإلا ضاع منه الإيقاع للأبد.

يأتي الحب،

 تُولدُ تلك الرغبة المستمرة في الهرب، الهرب من الأماكن التي لايكون الحُب مدعوًا بها، الهرب من الحديث الذي لايتحدث عنه، الهرب من الأوجه التي تتفرسها بمليّة بحثًا عن انعكاسه في مُقلة عينيها، الهرب حين تراه، والهرب حين تجده، والهرب حين تمتلأ المسافةُ بينهما بكل شىءٍ عدا الحب.

يأتي الحب، 

تأتي معه الدموع المالحة، حين تراه يعبُر بين الجموع على بواباتِ الوصُول للسفر، ذلك الوجه ذاته إقبالًا وإدبارًا، تنسال الدمُوع المالحة متأرجحة بين الفرح لطلّته، وبين الأسى من كل تلك الوحشة التي سيخلِفُها المقعد الفارغ حول المائدة.

يأتي الحب، 

تترنح اللغة، تعجز أن تملأ الشقوق التي وجدت طريقها في الجدار بينهما، لايُمكن حشر الكلمة التي قيلت من قبل في الشق ذاته، لاتبدو أن هناك ثمة كلمة كافية لترمم ما حدث، سيظل الشق في الجدار يشي بتلك اللحظة التي لن تنمحي من ذاكرتهما، لحظة أن سدد أحدهما مِعوله نحو الآخر، لحظة أن رأى أحدهما أن آَخَرَه قادرٌ على أن يُلحق به أقسى هزائمه، وأن يمنحه الألم صافيًا كسهمٍ انطلق وبات متأخرًا إرجاعه إلى جُعبته.

يأتي الحب، 

يُولد الصمت ممتدًا كأذرع عنكبوتٍ وجد طريقه للبيت، ينسجُ خيطًا وراء الآخر، يسكنُ في أخر كُلّ خيطٍ خوفٍ قديم أن ينظر أحدهما في عين الآخر فلايعرفه، أو تبتلع أحدهما ذاكرة التيه، يبحثُ عن صُورة الحب القديم فلايستبين الطريق.

يأتي الحب،

تأتي معه الرغبة في فقدان النطق والتمنطق، تشي به الأعين الُمتلهفة على أن تحط على كتفيه بين الجموع، تفوح منه رائحة الاحتراق عند الغياب، تئن منه أقدامٍ لازالت تسير في كُلّ تلك الدروب التي قطعاها معًا، تُرتب الأبجدية وفق حروف اسميهما فتارةً تضيق  وتارةً تتسع، تارةً تحجب وتارةً أخرى تكشف، تفقد الكلمات خدرها اللئيم القديم، كأنها مُضغت من قبل وأن الفم لايستسيغ الكَلِم الذي سقط من الشجرة، بل وينفر الجسد أن ينثني ليلتقطه.

يأتي الحب، 

ويأتي معه الإيمان، ثمة أمل سيزورهما كُلّ صباح، أملٌ يكفي أن تمضي الحياة يومًا آخر، فقط يومًا آخر بكل تلك الخفة واليُسر والسَكِينَة.

يأتي الحب،

تأتي معه الإمكانية، إمكانية الإيمان، إمكانية الإرادة، إمكانية الحدوث، إمكانية التحقق، إمكانية أن تُصبح الحياة مُمكنة لمرة واحدة وطويلة وممتدة.

يأتي الحب، 

تبدو الضوضاء التي لازمتهما لسنواتٍ، بعيدة، تقف بعيدًا وتودعهما بأعينِ أُم تمنح وليدها للغياب بلاخوف.

يأتي الحب،

يمحو كل الجيوب التي أثقلتها القسوة من حياةٍ سابقة.

يأتي الحب، 

تأتي معه الرغبة في تعلّم المغفرة كل يومٍ من جديد، مرّة تلو الأخرى، مغفرة لاتُشبه تلك المرصوصة رصًا في الكتب المقدسة مغفرة لاتأتي من السماء، بل تولد من طين الحياة، تعلن عن نفسها حين تتولد تلك الرغبة في صفع ذات الوجه مرة واحدة وتقبيله مرات كثيرة. مغفرة، يتسارعُ الإثنان للبحث عنها لئلا ينفلتُ الخيطُ من أيديهما. يجدها ربما الأقدر على التشبّه بالإله لبعض الوقت، أو من ينتصر الحب بداخله دونما تردد.

يأتي الحب،

تأتي معه الرغبة في العراك، والمصالحة بعد العراك حين ينظر أحدهما للآخر مؤنبًا كيف تفوه بتلك الكلمة، وكيف جرؤ على أن يُغمض عينيه دون أن يطمئن أنها بجانبه وأىُّ هوانٍ ذاقه حين أفلتَ أحدهما يده.

يأتي الحب،

تتوقف عقارب الساعة عن الدوران في مسارها المعتاد، ينفك المسمار الصغير الذي ظنّا أنه يُحكم ضَبطَ كُلَ شىء، ينطلقُ العقربين كعصفورينِ فُتح  لهما باب القفص الزجاجي للتوّ، ولن يصدهما شى ءعن التحليق عاليًا، فوق كل ما كان وما سيكون، وما هوكائن.

يأتي الحب، 

تأتي معه الرغبة في الاقتراب والاحتراق والفناء وإعادة الخلق كلّ يومٍ من جديد.

ياتي الحب،

تنسلُّ طمأنينةُ أنَّ الظهر لم يعد عاريًا للعالم يصوب سهامه نحو أحدهما بلاهوادة، ثمة أيدٍ ستصد عن أحدهما الخديعة والمهانة والقسوة، بل وستضمد جراحه إن لزم الأمر بقبلاتٍ شافيّة.

يأتي الحب،

ينحني أمامه كُلّ ما كُتب في الكتب، وسيق عبر شاشات السينما، ورآه اثنان يجلسان في الصالة المعتمة كقصةٍ تحدث لآخرين، يرونه قريبًا، قريبًا جدًا، قريبًا لدرجة ما أن يلتفت أحدهما للآخر، يصمت كُلّ شىء، وحدها القُبلة ترشدهما نحو الطريق لخارطة الآخر في البيت الجديد. 

يأتي الحب، تنتظر طرقاته على الباب في تمام الساعة الرابعة من مساء كل يوم مُحملًا بالأسى من قسوة العالم، تضع عنه ثِقل قلبه، تُضمد جراحٍ أنفق ماء  قلبه كيلاتُرى، تملؤه يقينًا أنهما معًا، وأن ما ينبُتُ بينهما غابة باللون الذهبي، سيهربُ إليها يومًا ما كل مُتعبي الأرض ومثقلي الأحمال. 

يأتي الحب،

تأتي الرغبة في أن تغرس أصابعها في عجينٍ يختمر من زاوية دافئة بالبيت، وأصابع تحطُ بخفة نورسٍ على وجه بيانو باللون الأخضر، وتلك التي تمرر بشبقٍ فوق صندوقٍ من خشبٍ عتيق فيستحيل نهرًا لا يضل الطريق.

يأتى الحب، 

كلاهما مُتعبٌ من الحياة، استقبلاه كمن يطفو على وجه الماء فاردًا ذراعيه، لايخشى أن تحمله صفحة الماء وتهمس له الريح أنه يُمكنه الآن، والآن فقط أن يُفلت قبضة يده لبعض الوقت، ويستريح.

يأتي الحب،

تنبت  حديقة كلما مرً أحدهم بها سمع صوتً يخبر “خلّيني ببالك- دايمًا- ببالك”.

يأتي الحب،

بسيطًا متدفقًا،، وحصريًا مثل “صباح” حين تغنجت

“وأتمنى أأقابله ولوصدفة، ويشوف تسريحتي وفستاني”

أن أريد أن يراني هو، 

في اللحظة التي أريده أن يراني فيها

وأن يكون هو وحده من يراني، 

ولا أحد آخر.

يأتي الحب فتيًا لم يهزمه الزمن، 

يأتي الحب منتصرًا كفارسٍ يضع عنه درعه الحديدي، 

يأتي الحب كشعاع شمس يجلو ظلمة الليل، 

يأتي الحب،

أنهما معًا، 

وأن الأبد الآن، وكفى.

زر الذهاب إلى الأعلى