أترجمُ لنفسي – أحمد شافعي

أشخاص:
بلدان:

أختار للترجمة ما ينقصني، ما ينقصني كمعرفة، أو كمتعة. أترجم مستهدفا نفسي في الحقيقة، صحيح أنني أترجم لأن هذه مهنتي التي أعيش منها. لكن من حسن حظي، أن ما ترجمته لكسب لقمة العيش فقط أقل كثيرا مما ترجمته لضرب عصفورين بحجر واحد.

***

أعترف أنني لا أقرأ كتابا بالكامل قبل أن أترجمه. بديهي أن هذا هو المنهج الصائب، لكنني حينما التزمت به مرة واحدة، جاءت الترجمة عملية كريهة ميكانيكية تخلو من أي إثارة. ما أفعله أنا ـ ولا أنصح به غيري ـ هو أنني ألقي نظرة، أقرأ الفقرات الأولى من المقال، فصلا أو اثنين من الكتاب، أتثبت من قيمة النص وجديته عبر مقال مكتوب عنه أو اثنين، ثم أشرع في الترجمة، متعجلا اللحظة التي أتجاوز فيها ما قرأت من النص سلفا، لتبدأ متعة الاكتشاف، وتصبح كل جملة أترجمها هي خطوة جديدة في طريق مليء بالمفاجآت.

***

القصائد فقط أقرؤها كاملة قبل أن أشرع في ترجمتها، ربما مرة بعد مرة إلى أن تبدأ العربية تزاحمني في القراءة، وتعترض الشعر قبل أن يصل إلى ذهني، مقترحة من عندها كلمة لكلمة في القصيدة، أو عبارة كاملة، فأبدأ الترجمة، حريصا أن ألتزم بأكثر ما ألزم به الشاعر نفسه، فأحافظ له على تقسيم السطور، والمقاطع، وربما التراكيب نفسها. ثم أُنحّي النص الأصلي، وأظل “أسمكر” في الترجمة، مضحيا بكثير مما ألزمت به نفسي، إلى أن يتسنى لي أن أقرأ القصيدة بصوت مرتفع فلا أصادف عائقا، بل أجدها تنساب سلسة على لساني، على لساني على الأقل. بذلك أكون ضمنت أن يستمتع ولو قارئ واحد، هو أنا.

هكذا لا تنفصل ترجمة الشعر عن “مراجعته”. هي عملية واحدة تقريبا. أما النصوص الأخرى، من مقالات وروايات وكتب، فللمراجعة شأن آخر.

***

أترجم عادة في الصباح، في الصباح المبكر جدا، في الوقت الذي يخصصه المؤمنون لآلهتهم، والآباء لأبنائهم، والكتاب لكتابتهم. أترجم لساعات طوال الصباح. ثم أنقطع عن الترجمة إلى شؤوني مهما تكن. وفي المساء أراجع ما ترجمته في الصباح. لم يحدث إلا مرة واحدة أن أرجأت مراجعة رواية (من تسعين ألف كلمة تقريبا) إلى حين الانتهاء من الترجمة. وكم كانت التجربة بشعة. مواجهتك بعد شهور لما راكمت من أخطاء (في فهم النص الأصلي طبعا، وفي نحو لغتك طبعا، وفي الإملاء طبعا، وفي التركيز بلا أدنى شك فتمنح اسم الكلبة لسيدتها، واسم السيدة لزوجها، واسم القاتل للقتيل، فإذا بك أمام رواية رثة لا إصلاح لها إلا بعناء شديد). أما المراجعة اليومية، للصفحات القليلة، فتضمن لي بعد شهور أن أقابل نصي فأجده مستعدا لاستقبالي، قارئا، يضبط همزة هنا، أو يضيف حرفاً هناك، أو يصحح خطأ أكثر جسامة أفلت من المراجعة الأولى. وأحسب أن الجزء المتعلق بالمراجعة اليومية هو الجزء الوحيد الذي قد أنصح به مترجما غيري.

***

حتى عام 2005 ظلت قواميسي الورقية مرجعي الوحيد تقريبا، وظللت كلما توافر لي فائض من المال أشتري مزيدا من القواميس. وفي عام 2005، أصبح لدي أول لابتوب شخصي، وأصبح لدي اتصال رخيص بالإنترنت، وأصبحت في غنى عن جميع قواميسي.

في السنوات الخمس السابقة على امتلاكي للإنترنت، ترجمت ثلاثة كتب (كلها شعر) وعشرات المقالات لبعض الجرائد، أهمها أخبار الأدب. وفي السنوات التالية ترجمت بقية كتبي، ومئات المقالات والقصائد والقصص، وتسارع إيقاعي في الترجمة بصورة لا ترجع فقط إلى تراكم الخبرة، بل إن من أهم أسبابها التيسيرات التي أدخلتها التكنولوجيا على عملي. في أول عهدي بالترجمة لم يكن يتاح لي الاطلاع إلا على نسخة من هيرالد تريبيون تصلني بعد يوم من التاريخ المثبت عليها. ونسخة أسبوعية من مجلة تايم. فإن عثرت في كليهما على عرض كتاب جيد ترجمته وإلا فلا. أغناني الإنترنت عن كل ذلك وفتح لي مصادر للعمل تكاد تكون بلا حدود. يكفي تماما أن أكون على اتصال بالشبكة فتغنيني عن كل مرجع ورقي تقريبا. والآن، مثلا، وأنا أكتب هذه الكلمات، لا يوجد حيثما أوجد قاموس ورقي أصلا. بل إن قواميسي الحبيبة الأولى خارج القاهرة كلها، فهي بيت أمي، تجمع غبارا تزيله عنها كل بضعة أسابيع يدٌ غير يدي.
_______
*تحقيق: كيف تترجم؟ جولة في الفناء الخلفي لأربعة مترجمين – حسين بن حمزة (الضفة الثالثة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى