المتعة والبطء – سمير جريس

أشخاص:
بلدان:

الترجمة اختيار. لذلك فالسؤال الأول هو: كيف أختار، وماذا أختار؟

‎الإجابة في حالتي تحكمها رؤية بسيطة. ليس هدفي أن أنقل إلى العربية اتجاهاً محدداً في الأدب الألماني، أو كاتباً معيناً أرى أن كتاباته تتوافق مع الذوق العربي، أو نصوصاً كل ميزتها الجرأة والصراحة الكاشفة أو الفاضحة لأنها تكسر تابوهات معينة. تتوزع اختيارتي على أعمال شديدة التباين والاختلاف، لا سيما أعمال بعض الكتاب من ألمانيا الشرقية سابقا، لأنها تعالج قضايا الدكتاتورية والتحول الديمقراطي، وهي قضايا ذات أهمية كبيرة بالنسبة إلينا في المنطقة العربية. لهذا قمت بترجمة رواية “قصص بسيطة” للكاتب إنجو شولتسه، ورواية “قاتل لمدة عام” للكاتب الألماني الغربي فريدريش كريستيان دليوس. وقد تكون متعة قراءة نص جيد هي الدافع للترجمة؛ كان هذا هو السبب في قيامي بترجمة أعمال مثل “الكونترباص” لباتريك زوسكيند و”العطل” و”الوعد” لفريدريش دورنمات. كان همي – ولا يزال – هو نقل أعمال متميزة من كافة اتجاهات الأدب الألماني اللغة المعاصر، أي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945. أقول أعمالاً متميزة، إما لأنها حققت شهرة في داخل المنطقة الألمانية (مثل “قصص بسيطة” لإنجو شولتسه)، أو لأنها حققت نقلة فنية أو أسلوبية وبالتالي كانت لها أهمية نقدية (مثل “مونتاوك” لماكس فريش)، أو لأنني أرى أن هذا العمل مناسب للقارئ العربي (مثلاً “الحيوان الباكي” لميشائيل كليبرغ والذي يتحدث فيه عن رحلته إلى لبنان وعلاقته بالشاعر عباس بيضون). وأحياناً أنقل عملاً لكاتب شبه مجهول لدى القارئ العربي ويجدر التعرف إليه (مثل توماس برنهارد وكتابه “صداقة”).

‎الترجمة تتطلب مني الالتزام بنظام صارم، فمعظم ما ترجمته، قمت به بجانب عملي اليومي في الصحافة وفي الترجمة الفورية. ولهذا تتم الترجمة ببطء نسبي، وأعتقد أن هذا البطء يخدم – عموماً – الترجمة. أترجم في البداية النص كمخطوطة، بخط اليد أو مباشرة على الكمبيوتر، وهو ما أصبحت أفضله في السنوات الأخيرة لأنه يوفر الوقت. هذه المسودة أعمل عليها أكثر من مرة. المرة الأولى لأتأكد من صحة الترجمة والمحافظة على المعنى الأصلي. في المرة الثانية والثالثة، وأحيانا الرابعة، أعمل على الأسلوب العربي – وهذه هي المرحلة الأصعب، أعني أن يُراعي المترجم سمات الأسلوب العربي وأن يحافظ في الوقت نفسه على ملامح الأسلوب الأصلي. ليس هدفي في الترجمة أن أقدم نصاً عربياً يمحو شخصية الكاتب الأجنبي (يعني مثلاً إذا كان هناك كاتب يتعمد ألا يستخدم تعبيرات شائعة أو مصطلحات مسكوكة ويستخدم الكلمات استخداماً جديداً، فعلى الترجمة أن تعكس ذلك). هدفي هو تقديم نص عربي سلس يحافظ على البيئة الألمانية والسمات الأسلوبية للأصل.

‎العمل الوحيد الذي تفرغت لترجمته كان “عازفة البيانو”، فبعد حصول يلينك على نوبل 2004 شعرت بأهمية نقل عملها الأساسي إلى العربية. تفرغت تماماً للترجمة، وحصلت على منحة من معهد المترجمين في مدينة شترالين الألمانية. هناك كنت أعمل ما لا يقل عن 12 ساعة يومياً. أعتقد أن هذا التفرغ كانت له ميزة، وهو أنني عايشت بطلة الرواية نهارا وليلا إذا جاز القول. من ناحية أخرى كنت أعمل تحت ضغط كبير، إذ كان عليّ أن انتهي من الترجمة بسرعة لكي تُطبع قبل معرض الكتاب في القاهرة في يناير 2005. كانت تجربة ثرية وخصبة، وما زالت أعتبر هذه الترجمة من أهم ما قدمته للقارئ العربي.
______
*تحقيق: كيف تترجم؟ جولة في الفناء الخلفي لأربعة مترجمين – حسين بن حمزة (الضفة الثالثة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى