تلك اللحظة العابرة التي تمنّيت فيها أن ينتهي كل شيء، أصبحت اللحظة التي لا تعيش سواها.
والأيام التي تنهار فيها لتعود أقوى.. تصبح أعوام. فلا تقوى النهوض، وتهوى.
كنت تهرب من الليل الطويل بالنوم، وتستيقظ فتقول “بالأمس كنت عالقًا بالوحدة”. أما الآن أنت لا تنام. حياتك كلها أصبحت ليلة واحدة معتمة، تفيض بالأسى، ومؤلمة. لم تعد الذكريات وحدها مايؤلمك، بل حقيقة عدم نهوضك. عدم الوصول إلى مكان. أنت عالق وبشكلٍ أبدي، فيك. وهذا مايرعبك، مايَنخَر عظامك. لم تكن يومًا بهشاشة كافية لتظن بأن الحب سوف يشفيك، لكن ومن شدة اليأس، تتشبّث به وكأنه طوق النجاة الوحيد، وتثور غضبًا إذ لم ينجيك. إذ لم يقف بينك وبين نفسك. يجب أن تفهم أن أحدًا لن يفعل ذلك. لن يفتح لك باب الخروج سواك. أنا أفهم ذلك.. لكن هنالك جدار منيع، بين عقلي وكل ما أشعر. الجدار بين مايجب فعله، وبين إرهاقي.. كم أود لو أن أجد سببًا واحدُا أتمسك به للنهاية. لكن شغفي بكل شيءٍ، مؤقت. لا أنفك عن الإفلات. كل ما أشعر به لحظي. لا أثق برغباتي. أنا أصل لكل شيءٍ وأنا منهك، ناسيًا لذة الوصول، ومتعب من الرحلة، التي كنت فيها أتوق لهذه اللحظة. كل مايجب عليه أن يُفرحني ينتهي دون أن يحرّك بيَ شيء. كل الأشخاص يمضون من خلالي، لا يستقرّون فيني. أصبحت أتمنى الموت يوميًا، رغم أني لم أعش. أنا فقط لا أشعر برغبة في أن أُكمِل. مللت من الإنتظار. إنتظار اللحظة التي ستقلب حياتي. المعجزة التي ستجعلني أشعر. لقد مللت من الساعات الثلاث التي أقضيها على السرير، محاولاً إيجاد سبب يدفعني للنهوض، أريد أن أرغب بالنهوض، لا أن أُجبَر بحكم العادة. ومللت أيضًا من الساعات الطويلة التي أقضيها محاولاً النوم، محاولاً طرد كل أفكاري. مللت من الخدر، ومن الشعور أكثر من اللازم أيضًا. أنهكني عيشي بعالم يسحق صدري ويرفض وجودي، أنهكني البكاء على حقّي بالعيش. أعجز عن الوقوف، دون أن أنهار. أريد أن أرفع راية بيضاء في وجه العالم، لكن العالم الذي لم يعترف بوجودي، لن يرى رايتي. سيستمر كل شيءٍ في دهسي، وفي إنكار حقيقيّتي. أنا الذي كنت أرفض أن أقول ولو لنفسي بأني متعب، اليوم أغنّيها. أنا مُتعب، مُتعَبٌ جدًا، ومُثقَل. وأسعى لأن أجد شيئًا يساعدني، وشخص يعترف بألمي، دون أن يظن أن لي يدًا فيه، أو أن بإمكاني النهوض لكنني لا أرغب.. من يرغب بأن يعيش الموت بشكلٍ روتيني!؟ من سوف يسمح للأيام بدفنه؟ صدّق أو لا تصدّق، أنا حاولت، كثيرًا. أنا كنت أدفع نفسي للعيش. أسحبها للحياة. كنت أحشر يومي بكل مايمكن أن يخفف عني ثقل صدري.. لكني فشلت كما ترى. أنا لم أختر أن أتوقف، لكني أحاول الحفاظ على كرامتي ربما، حين أقفل على نفسي الباب، لأنهزم أمام الاكتئاب. ولأكون صادقًا أكثر.. أنا لا أحتاج أن أتوحّد بنفسي لأنهار، أصبحت أنهار واقفًا، أمام العديد!
لا أحتاج أن يشهد الجميع موتي. لهذا اخترت العزلة.. أريد أن أعيش هذا الاحتضار وحدي. لا أستطيع أن أفهم ماذا يحدث بداخلي، رغم أنه قد مكث طويلاً. لا أستطيع أن أجد وسيلة للنجاة.. لا أقدر على أن أظهر وبشكلٍ كامل، وواضح، إليك. كل ما أخبرتك به إلى الآن، قليل. قليل جدًا وسطحي، بالنسبة إلى ما أعانيه حقًا. لن أتوقع منك أن تفهم، وسأكرهك كثيرًا إن سألتني عن سبب سقوطي؛ لأني لا أعلم.
أحيا مُحاولاً أن أستوعب حقيقتي، وحقيقة أن أحدًا لن يطيل النظر إلى هذا الخراب، إلى شخصي المُجرَّد. أفهم ذلك. لكنهم أقنعوني.. أقنعوني بأني نجوت، جعلوني أقذف أسلحتي بعيدًا، كيف فاتني أن العدو من خلفي، والجيوش تنهشني بأعينها؟ لم أنجو بعد، وليس بمقدوري أن أحارب. أداروا ظهورهم عني، محتلفين بانتصاري. لقد مضوا بعيدًا، تاركيني أحاول أن أمسح دمي، بأيدٍ مبتورة، محاولاً أن أناديهم، لست أدري، هل أنا أبكم، أم هُم صُم؟ هل أنا أهذي، أم وحدي المستيقظ؟ كنت طفلاُ عندما أخبروني بأن الله قد خلقنا في أحسن تقويم، وأنا هنا أتساءل، هل من الممكن أن تكون جميع مخلوقاته معطوبة بقدري، أم أني خطأ الله الوحيد؟ رأسي لن يهدأ، ربما قد حان وقت تفجيره، وتحويله إلى قطع. لا أفهم كيف لجسدٍ هش أن يرفع حِمل العالم على كتفيه. وكيف لشخصٍ يحتضر أن يقف بكل ثبات أمام بشاعة العالم، ووحشية الوحدة. إني مرعوب، ومُنهك. أرهقني كل هذا الخوف، التوجّس، التفكير بأسوأ الاحتمالات. إني حين أستيقظ أستاء.. لماذا أُعطيت يومًا جديدًا، شبيهًا بالأمس. لماذا يستمر الله بتزويد رصيد أيامي، رغم أني قضيت حياتي أطلب منه نقيض هذا.
شوق عبد العزيز