في عشق اللسانَيْنِ – رشيد وحتي

[إلى ذكرى ڤالتر بنيامين]

كثيرا ما تم تَبْخِيسُ اشتغال المترجم باختزاله في نقل المعاني من لغة إلى لغة أخرى، في حين أن هجرةَ النصوص هجرةُ معنًى ومبنًى من ثقافة إلى ثقافة أخرى.

* *

ترجماتي جزء أساسي من مؤلفاتي الأصيلة، وأنا هنا أُفَضِّلُ الكلمة التراثية “صَنْعَة” على الكلمة الرائجة: تَرجمة. كليلة ودمنة للهندي بيدبا، الصنعة العربية لابن المقفع.

* *

عندما يكون لي الخيار بين طيف من الكلمات، أَسْتَرْشِدُ بأرسطو: “بين كلمتين، ينبغي اختيار أخفِّهما.” [الْقِيَمُ إِلَى نِيقُومَاخوسْ، السِّفر 2، 9.4]

* *

عندما أنقل شعراً حراً أو موزوناً عن لغة وسيطة، أصوغ الصنعة العربية نثراً، مما يتيح لي — بحرية أكبر — البحث عن إيقاعات، فواصل، جَرْسٍ حروفي وترادفات صوتية تتواءم مع حمولة النص.

* *

في تقديس النقل عن الأصل بعضٌ من ميتافيزيقا البحث عن كلام البدايات: إدراك أجواء عوالم ورؤية الشعراء النظرية أهم من تملك ناصية اللغة الأصل دون رؤية مؤسَّسة في الترجمة والحواشي الثقافية للنصوص. [سان-جون پرس/ أدونيس/ علي اللواتي.]

* *

الترجمات تشيخ، وبعضها يصمد إذا استطاع إنتاج نصٍّ نِدٍّ يَتَوَفَّقُ، وسط لغة وثقافة استقباله، في أن يقطع مع الأصل ليشكل مرجعا ومصدرا كأنَّ لا سابق له [صنعة بودلير ومالارمي لإدغار ألن پو.]

* *

لا أترجم إلا ما أُغْرِمْتُ به، حدَّ أنني أتمنى لو كنتُ كاتبَه، أَتَمَاهَى معه؛ فيما خلا حالة استثنائية واحدة: أحببتُ كثيرا قصائد الشاعر الصهيوني [يصرح للصحافة بأنه عراقي أيضا] رُونِي سُومِيكْ، رغم أني قرأته قراءةً مُتَرَصِّدَةً، قراءةَ عَدُوٍّ لِعَدُوٍّ؛ وكذلك ترجمتُه ترجمةً مترصدة: لم أَتَعَامَلْ مع النصوص التي تتخذ لها المشرقَ العربي كجغرافيا مثلما تعاملتُ مع النصوص التي تجري خارج أرض الصراع.

* *

ترجمتُ سونيتات من عصر النهضة الأورپية، وكانت تَطِنُّ في رأسي — ساعتذَاكَ — موشحات أندلسية؛ سوُنِيتَةْ: أُغْنِية صِقِلِّيَّةٌ وَجيزة، كان العرب هناك. تْرُوبَادُورْ: طَرَبْ دَوْر، دور موسيقي؟ أم دوران وحوم بين الأمكنة؟ أم هو دوران على طريقة الدراويش المولوية؟ ثمة خيط يبقى رابطا بين الكلمات حين تهاجر من ثقافة إلى ثقافة؛ الاشتقاق يحوك ما انْفَتَقَ؛ الترجمة تكشف أواصرَ لم تخطُر على بال..

* *

تَمَرَّنَتْ وانصَقَلَتْ لغتي الشعرية عبر مِحَكِّ الترجمة: محاولاتي في استجلاب تراكيب وعبارات فرنسية نحو العربية أسهمت في إبعادي عن بعض شيخوخة وطهرانية التمسك بأطروحتي فصاحة وعبقرية اللغة العربية. “الشعر لغة داخل اللغة” [پُّولْ ڤَالِرِي]، وعليه فترجمة الشعر متاهةُ لغاتٍ، لغةٌ داخلَ لغةٍ داخلَ لغةٍ..

* *

مجموع ترجمات النص الواحد هو مجموع تأويلاته؛ ليست ثمة ترجمة نهائية [مثلما ليس ثمة نص نهائي]، بما أنه ليست ثمة قراءة تأويلية تستطيع استنفاذ غِنى النص. لا ترجمة السابقين لي تثبط عزيمتي في وضع ترجمة جديدة، ولا ترجمتي تغلق باب الترجمة من بَعدي.

* *

ثمة شعراء أساسيون حجبت ترجماتُهم نصوصَهم الأصيلة، غالباً بسبب سياسة الناشرين والإعلاميين التي تُسَوِّقُ الأسماء والمطبوعات وفقَ هوى السوق: جاك لاكاريير، دومينيك ﯕـرامون، كلود إستبان، بسام حجار، محمد الشرﯕـي..
_______
*تحقيق: كيف تترجم؟ جولة في الفناء الخلفي لأربعة مترجمين – حسين بن حمزة (الضفة الثالثة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى