لوركا من ألمع كتاب المسرح في العصر الحديث إلى جانب كونه شاعرًا كبيرًا، وقد عاش أكثر حياته في موطنه أسبانيا، ومات وهو شاب مقتولاً خلال الحرب الأهلية بها، وعلى الرغم من حياته القصيرة فله إنتاج أدبي ليس بالقليل، وأخذ صورة العالمية، فقد ترجمت أشعاره ومسرحياته لكثير من لغات العالم. ويغلب على أكثر مسرحياته إظهار المآسي فيها، وهي تصور الريف الأسباني في مطلع القرن العشرين بأسلوب المأساة، وتنتهي هذه المآسي بالموت، كما نرى في التراجيديا اليونانية، وتراجيديات شكسبير، ومن مسرحيات لوركا المأساوية مسرحية “يرما” ومسرحية “الزفاف الدامي” ومسرحية “بيت بيرناردا ألبا”.
وتتفق مسرحية “الإسكافية العجيبة” مع المسرحيات السابقة في تصويرها الريف الأسباني في مطلع القرن العشرين – وتتشابه حياة الناس وطباعهم فيه إلى حد ما مع طباع المصريين لا سيما في الريف – ولكن تختلف هذه المسرحية عن مسرحياته السابقة في أنها يغلب عليها روح الملهاة.
وتجري أحداث هذه المسرحية في دكان إسكاف كبير في السن نوعًا ما، وهو شخص طيب القلب يحب الهدوء والضحك، وقد نصحته أخته أن يتزوج، وقالت له: إنها لن تعيش له طوال العمر. وعمل بنصيحتها فتزوج على كبر سنه من فتاة فقيرة، ولكنها شابة جميلة في نحو الثامنة عشرة من عمرها.
وعلى الرغم من أنه لم يمضِ وقت طويل على زواجه منها فقد أتعبه عشرتها، فهي دائمة الشجار معه، وتقف أمام النافذة تتحدث مع كل من يمر أمامها خاصة من الشبان الذين يغازلونها، ويأتي العمدة لدكان الإسكافي ويشكو له الإسكافي سلوك زوجته، ويقول له العمدة: لقد تزوجت على التوالي أربع فتيات حسناوات، وقد متن كلهن، وعشت معهن حياة سعيدة؛ لأني كنت أقومهن بهذه العصا، فيقول له الإسكافي: أما أنا فلست عمدة، وليس عندي عصا.
ويضايق الإسكافي الإشاعات التي تتردد عن زوجته، وتتهمها في شرفها، ولا يدري مدى صحتها، ويقرر أن يرحل، ويترك دكانه وزوجته والبلد الذي يعيش فيه، ويتجول في البلاد حكاء يحكي القصص الشعبية من مختلف بلاد العالم.
ونرى الإسكافية في الفصل الثاني وقد حولت الدكان لمقهى صغير تبيع فيه المشروبات، كالقهوة، ويأتي لها أحد الشباب في المقهى، ويحاول أن يغازلها ولكنها تصرفه عنها، وكذلك يأتيها العمدة، ويعبر لها عن إعجابه بجمالها، وتصده أيضًا، وتستنكر على العمدة أن يدع النساء العجائز يلسن عليها ويؤلفن أغنية عن هجر زوجها لها، ويدخل زوجها الإسكافي مقهاها متنكرًا في هيئة حكاء، ويغير صوته، ويحكي بعض القصص القصيرة عن نساء خدعن أزواجهن، وترحب الإسكافية بزوجها دون أن تعرف حقيقته، ويحكي لها عن فراقه زوجته ويقول إنها تعيش في بلد آخر، وتتعاطف معه، وتصارحه بحبها لزوجها، وأنها عفيفة تطرد كل طامع فيها، وفي اللحظة التي يتجمع فيها النساء العجائز لطردها من بيتها لإعجاب كثير من الرجال بها ولتقاتلهم بسببها
– يكشف زوجها عن شخصيته الحقيفية لها، وهنا تقول له: تركتني أيها الوغد وحيدة، ويرد عليها: عدت إليك يا حبي وعدت لبيتي الحبيب. وعند ذلك تواجه النساء المتجمهرات أمام بيتها في زهو، ويقف إلى جوارها زوجها، ثم تعود لتوبيخه، كما كان حالها معه قبل سفره، وتقول له: لقد وضعتني في هذا الموقف مع هؤلاء النساء المزعجات. وتنعى حظها – كما كانت تفعل من قبل – لزواجها منه، وتنتنهي المسرحية بقولها: يا لي من بائسة!
وتتشابه شخصية الإسكافية مع شخصية “يرما” في أنهما شابتان غير منجبتين لعدم قدرة زوجيهما على الإنجاب، ومع أنهما تتمنيان الإنجاب وتعرفان أن زوجيهما هما السبب في عدم الإنجاب فإنهما شريفتان رغم كثرة الإشاعات التي تقال عنهما.
وشخصية الإسكافية نمط كوميدي للمرأة السليطة اللسان التي
لا يكاد يسلم أحد من لسانها خاصة زوجها – الذي تتعارض شخصيته مع شخصيتها فهو يحب الهدوء وعدم الشجار – وبسبب طبيعتها هذه ولجمالها لإعجاب كثير من الشباب بها تتعارك مع كثير من النساء خاصة العجائز، وتكثر الإشاعات عنها.
وهي مع سلاطة لسانها وكثرة شغبها لزوجها فإنها في داخلها تحبه، وتكتشف هذه الحقيقة عندما يهجرها، وتتمنى عند ذلك عودته، ولكنه ما إن يظهر لها حقيقته بأنه ليس حكاء بل زوجها حتى تعود نمرة شرسة معه من جديد وتصلقه بلسانها.
وقد أجاد لوركا رسم هذه الشخصية القريبة من النمط، وأجاد كذلك في تصوير العمدة الشهواني الذي تزوج أربع نساء على التوالي ومِتْنَ عنه، وما زال يرغب في النساء ومعاكستهن مع كبر سنه.
وكذلك برع لوركا في رسم شخصية الإسكافي الذي يترك عمله وبلده هربًا من زوجته الكثيرة التبرم والتي تحوم حولها شبهات كثيرة، ويتنكر
في هيئة حكاء، ونراه يجيد الحكي، ويجعل حكاياته عن نساء متمردات
أو خائنات؛ ليرى انطباعات زوجته على هذه الحكايات، ويعرف مدى وفائها له.
وأخيرًا فهذه المسرحية من أروع مسرحيات لوركا، ومن أكثرها عرضًا في مسارح العالم.
452 3 دقائق