عدتُ إلى شقتي بعد سفر لعدة أيام، لفت انتباهي فضلات طائر متناثرة على المنضدة والكتب، لا أتذكر أني أفتح النوافذ إلا ما ندر وفي فترات قصيرة وغالباً ما أغلقها بعد مشاهدتي للشمس وهي تدع الظلام يخيم على كل شيء، رأيتها مفتوحة بشكلٍ كامل، أدركتُ حينها أنها ليست طريقتي بفتحها هكذا، ولم أعتد على استقبال الزوار. ثمَّ تذكرت الزميل الوحيد الذي زارني قبل انتقال عمله لمدينة أخرى، حين جاء وتذمَّر من قتامة المكان والرطوبة التي تخنق الهواء، خطا نحو النافذة وفتحها بشكلٍّ فج، لا أدري كيف نسيتُها، ربما هذه عادة الإنسان حينما يرتّب حقيبة سفره وينسى جزء منه، كان انتباهي أن أقفل الباب جيدًا لأصون أشيائي.
تجاهلتُ الأمر على عادة الفطرة وأخذتُ أمسح الفضلات وأحياناً لا يجدي معها سوى القشط، ثم الغبار الذي بسط نفسه على كل شيء، أعدت الأمور إلى مكانها حسب ما كان يناسبني، أسقيت شجرتي التي مضى على موتها قرابة عام، مازلتُ في كلِّ مرة أغمرها بالماء، يجول في سريرتي ذلك الحدس بأن جذعها يحوي في جوفه بذرة لربما تكون سببًا في ميلاد آخر، انحنيت لأحد الأدراج السفلية لأنظفه، ولكن فوجئتُ بطائر ملقى على الأرض دون روحٍ تحرّكُ جناحيه، جالت في رأسي أفكارٌ كثيرةٌ، إلى أن هالني ما يرمي إليه تدفقها، أشحتُ بصري عنه وقد وقع على النافذة، شعرتُ بالهلع يتملَّكني جرَّاء تساؤلاتي، لقد كانت مفتوحة! لم يكن الطريق يحمل العوائق! وهذا المدى لا يحتاج سوى جُهد رفرفتيْن من جناحيه.
تذكرتُ كلام زميلي الذي دائماُ ما يحثّني على الخروج من هنا، لكنه ليس مجنون ليفتعل حدثاً كهذا، يكمن رعبه بالرسالة التي تحمل آلاف الأوجه، كلُّ وجهٍ أبشع من الآخر بفكرته، ماذا لو أن الباب كان مفتوحاً على مصراعيه، نعم، إنه أقرب لحريته، لكن هذا لا يحبّط أمل المحاولة، ورغم ذلك سببًا رئيسيًا لقلب الموازين، أسندتُ ظهري على زاوية الجدار، تمعَّنتُ تفاصيل المكان أبحث عن سبب نهاية الطائر، لم أجد ما هو مثيرٌ للريبة، أو ما قد تزحزح عن مكانه، كلُّ شيءٍ يدعو للاعتيادية ولا يمكنه أن يتسبب بمقتل حشرة، لعلها النهايات تُخلقُ من جنس الشيء الذي حتم موته.
لذلك يموت الطائر من السقوط مثلما يموت الفرد من رغباته، أصابتني الحيرة لأنه لا يوجد هنا أفق يحتمل نهايته، تملكتني صرخة من اليأس المتكثف، لشدَّة السأم من الحرية، أيمكن أن تثأر الفطرة من الطبيعة! شعرت بالخوف، لا يحتمل العالم أكثر من شهوة الإنسان في جعل الأشياء دائمة التغيُّر، إذ تلهث خلف متناقضاتها. أحسستُ بالدم يتصاعد من أطراف يدي نحو رأسي الذي تتصارعُ فيه تلك الأفكار، ثمَّة خوف أدركه، وآخر أشعر به دون أن أعي كنهه.
حاولتُ جعل الأمر تافها ذهبت للمطبخ، أعدتُ فنجاناً من الشاي، ثم جلستُ على الكرسي المقابل للمشهد المؤسف، ليكون اعتيادياً بالنسبة لي، تأملتُ منقاره ثم عاودتني خيالاتي، صارعتُها، رددتُ جملة “أمرٌ عاديّ” لأُسطّحها هششتُها لكنها تتطاير في ذهني ويزداد صخبها، لجأتُ لرشفةٍ من الشاي لأشتت تَركيزي، وجدتهُ باردًا لا يُستساغ يئستُ من حماقة المحاولة، دنوتُ بناصيتي على شفير الطاولة، فكأنّي سقطتُ داخل رأسي فاستحالت الأفكار إلى السراديب، بلغ مني التيه مبلغه.
طرأ لي خاطر، أن أُبعد هذا الطير، والأيام كفيلة بالنسيان، نهضتُ وأنا أحمل حنقي، فما إن وقع نظري على شجرتي فوق الأدراج إلا وتهالكَ جسدي على مسند الكرسي، شعرتُ بحدقة عيني تهتز، نظرتُ للنافذة ثم أدرتُ نظري نحو أغصانها، تلك التي يتمثل بها استقرار الطائر وما يؤمن به، تجلى انعكاس المأساة على نفسي ارتعبتُ أكثر من السابق لهذا المعنى، شيء ما صعقني من الداخل، ذهبتُ مُسرعًا إلى النافذة نظرتُ لأسراب الطيور وهي تحلق، تنظر جميعها للأشجار التي تحمل مبادئ حريتها التي تريحها وتهبها الخلاص من لعنة التحليق، من سرق من الأفق معناه؟ وجعل جوهره السقوط؟ من قولب المفاهيم وتسبب بالخديعة الكبرى التي تحدث في السماء؟ حزنتُ للأسراب المخدوعة، أسدلتُ الستار وأنا حائرٌ بشكلٍ نافر مما أؤمن به؛ وقد رأيت الشجرة تسخر من الطائر المُلقى على نحوٍ بَشعٍ.
*نص: أحمد الحربي