الحنينُ إلى البيت
« أحمد راشد ثاني»
ماذا لو رجعنا الآن إلى البيت؟
ماذا لو رجعنا …؟
وكان البيتُ نائماً
في جميع الغرفِ
نُوقظه بمفتاحنا الصغير
كما لو أننا نُشهِّيه بنا
وعندما يرانا
من الباب
ينبسطُ لنا
مادّاً صالتهُ وشَراشفَهُ
مفسحاً لنا دوماً
فراغاً كي نملأه
وموطئ ساعةٍ
كي نلعبَ مع الظلالِ
كي نَسعدَ في قصرِ القوقعةِ
ونتعلّق على أغصان الغيوم
ونلعب الكرةَ مع السفن
بين الممراتِ.
ماذا لو رجعنا …
وكان البيتُ ذاهباً حينَها
إلى البحرِ كي يشربَ
وبعد أن شَرِبَ
أخذ البحرَ معه
وعاد البيتُ
إلى البيتِ
ما الذي تفعله الأسماكُ الملساءُ
وهي تسبحُ على الجدران؟
ما الذي يفعله المرجان في المطبخ؟
ما الذي تفعله في النافذة
الموجة التي ركبت على الحوت الغاضب
والطيور التي تجمَّعت في الصالة
كي ترى ذلك العرض في التلفزيون…
كيف يدخلُ البحرُ إلى البيت
دون مشقَّةٍ
ويسهو على المدفأة
بينما الهواءُ يعومُ
فاقداً رُشْدهُ في الماء
كما لو أن الفقاعةَ
نشوانةٌ في الفمِ
مطلوقةٌ من الكلماتِ
تحوِّلُ اللغةَ إلى أحاسيسَ
والخواطر إلى أهدابٍ
… أما الصورُ فترفرفُ
على المدى الفسيح للجدرانِ
وكأنها في مَهمَّاتٍ خاصةٍ بالنحلِ.
ماذا لو رجعنا …؟
بعد أن أهلكنا الخارجُ
وهَلكنا
في الخارجِ
بعد أن تلكّأنا على الطرقاتِ
حتى لا ينتهي الليلُ بنا
كما نحنُ
وأتعَبنا العديدَ من الطاولات
حين جَلسنا طويلاً
على أطرافها
بانتظار عصافير الحظ
تحلُّ
على ذلك الغصن القصيرِ المواربِ
وطاردنا ملائكةَ المتعةِ
من مقهى إلى مقهى
واحتسينا البراميلَ
من رحيقِ الرمادِ.
ماذا لو رجعنا الآن
إلى البيتِ
ولم نجدِ البيت
فعُدنا
فلم نجدنا …؟
ماذا لو أخذنا الأمام رهينةً
كي يقينا من الرجوع؟
ماذا لو لم نعرف أبداً
وكان البيتُ مُعلَّقاً
في المنعطفِ
نأخذهُ من يدهِ
ونضيءُ به الآخرينَ؟
ماذا لو كان الآخرون
هم البيتَ
وكنا الطَّارقَ
وكنا المُنتظرَ؟
ماذا لو فهمت أمهاتُنا
كلَّ هذا
وحَمَلْنَ الشجر؟
ماذا لو كانَ اللَّحِدُ
غرفة من غرف الرَّحِمِ
نعدهُ في زواياه
فناجينَ الصحّوِ
للخفاءِ
يجمعُ الرائحةَ
في صُرَّةِ الشفافيةِ
ويمتدحُنا …
يُمسّدُ أكتافَنا
وعندما يخرجُ
يعلقُ نُطفتنا في الضوءِ
كي تشرَبنا الأحجارُ.
(مقطع من القصيدة)
*ديوان: دم الشمعة
الحنينُ إلى الملائكية
«نجوم الغانم»
الملائكة
الملائكةُ التي احتبسَتْ فجأةً
في الجوارِ
تقفُ على مشارفِ المدينةِ
مصغيةً لارتجافِ قلوبنا
لكنَّها لا تريدُ الاقترابَ
لسماعِ حكاياتنا
إنها تَنحني
فوق أسطحنا
لتقرأ أساريرَنا
ولا تأبهُ للجراحِ التي
تَسيلُ في كلِّ ليلةٍ.
إنها تذهبُ الآن
بَعد أن شاءت
أنْ لا تُلطِّخَ أرديتَها بدمائنا.
*ديوان: ملائكة الأشواق البعيدة
محاولات هشَّة
جئتُ أفاوضُ الأحزانَ التي لم تدعني
أمتثلُ لأفكارِ البُعادِ
ولم ترأف بأدمعي حين احتقنَتْ
مُستنجدةً بالأزمنة.
توسّلتُ الغيابَ
أن يُسكتَ مواجعي
أو أن يُعيدني إلى المرأة
التي كنتُها قبل أن تمطرَ
آلام الليالي الفائتة.
احتميتُ بتفاصيلِ محبتنا
التي تذكرتها
والتي لم أتذكرها.
كانت الرسائلُ تمدُّ لي يدَيها
لألتفتَ إلى حبرها
إذ تماهتْ ألوانُه في غَفلتنا،
والكلماتُ تفتش في عينيّ
عن البريق الذي طالما
استعادَها من عَتْم الوحدة.
لكن عينيَّ اليومَ مبللتانِ
كشمعتين استنفدتهما
الليالي الطويلة
دون أن تجدا من يناولهما
منديلاً
أو يُهيلُ عليهما
الرأفة.
*ديوان: لا وصف لما أنا فيه
الحنينُ إلى الجسد
«عبدالعزيز جاسم»
الشبح
1
أنا هُنا في المِرْآةِ، في الهواءِ الأحْدَبِ
في الجليدِ
في تابُوتِ الأعوامِ
في مدينةِ الأحابيلِ والكمائنِ
ودَمِ الأبدية
الَّذِي يُلطِّخُ قَمِيصي.
أنا هُنا، خَلفَكِ وأَمامَكِ
أَمْشِي ثَمِلاً
على حائِطِ المَرارَةِ
الَّذِي يَمِيْلُ بي
كُلَّمَا مِلْتُ فَوْقهُ
نَحوكِ.
2
أنا هُنا في المِرآةِ، خارِجَهَا
خارجَ صُوفِ الحَدِيقَةِ
قُرْبَ العُيُونِ الْأَكْثَرَ وَجَلاً
وسَطَ صحرَاء مُكْتظةٍ بِاللُّصُوصِ
أُحَرِّكُ عَصاي فِي بِرْكَةِ
الجُغرافيا الراكدة
وأبحثُ عن صَوْتِكِ الضائعِ
كالإبرة.
بلا ضَمِيرٍ كَانَ يَتَرَصَّدُني الْقَوم
وكُنْتُ أسمَعُ حَمِيْراً تَنْهَقُ
بَدَلَ أَصْواتِهِم
ولكِنِّي وقَفْتُ في الظلامِ
أَشعَلتُ نَارَةً كَي يَرُوْنِي.
وحين جاؤوا، مَلأُتُ يَديَّ بالجَمْرِ
فَصاروا رماداً وأبعاراً
وأَصْبَحْتُ أنا مِن يَومِها
أظهَرُ وأختفي كالشَّبح.
ألهذا السَّبَبِ إِذَاً، سَبب أَنْ تَجِدَ صَوْتاً
يُشبه الإبرةَ
تتحوَّلُ إلى شَبَحٍ
يَنبشُ الغُبارَ
في مِرآة؟
3
تَذَكَّري! مِنَ الضروري أَن تَتَذكَّري الآن.
كَانَتْ رُوحِي مِزْرَقَّةٌ
كوَرَقَةِ الغَيْبِ
حينَ دَلَقْتِ نَظْرَتَكِ عَلى جَسَدِي
ذاتَ أصِيلٍ
وبِكُلِّ شَغَفٍ مَنَحْتُكِ
آهتي.
كانَ دَمِي أَخْضَرَ
كحقلٍ من البطيخ
حينَ كُنتُ أفُكُّ بَرَاغِي الضَجَرِ
وأسْتَبْدِلُ عَجَلَةً بِعَجَلَةٍ
فكيفَ تَسَلَّقْتُ سُلَّمَ الهَواءِ
على عَجَلٍ
كَي أَتَلَقَّفَ نُثَارَ اسْمِكِ.
كَانَ هَيْكَلِي بُرُونِزِيَّاً وَمَدْهُوناً
بِزَيْتِ السُّمْسُمِ
عندما حَمَلْتُكِ كَوَدِيْعَةٍ
واجْتَزْتُ بكِ المحيطَ المُتلاطِمَ
في مُقْلَةِ حُوْتٍ أَعْمَى.
غيرَ أَنَّ فَمِي ظَلَّ ذَهَبِيَّاً
مِنْ كَثْرَةِ مَا بَاضَ
صَمْتُكِ عَلَيْهِ
وفَقَّس!
4
هكذا كُنْتُ: شَبَحاً خالصاً
لا زَادَ لي سوى الضّوء
ولا مَاءَ لي غير
السَّراب
وليسَ عِنْدِي بَطْن.
كُنتُ إشارةً بينَ الدَالِياتِ
أو هواء على مرفأ
الفَجْرِ
لَمْ يَكُنْ هذا شَاغلي.
ولكني أعْلَمُ الآنَ بأَنِّي طَويلاً
مَا عِشْتُ كَوَجْهٍ نُقِشَ
على مَوْجَةٍ
تَدُومُ
أو كلُغَةٍ عَجَزَ عَنهَا النُّسَاخُ
وانتَحَرُوا.
5
أَنا هنا، نَعَم، مُحاطاً بالأذى
والأخطاءِ
والأحزان
مثلَ قَمِيصٍ يَتَطَايَرُ
في حَقْلِ صبَّارٍ
رهيب
أمِيلُ على نَفْسِي، أَتَداعَى
أدورُ
أنجرحُ
ولا أسقُطُ.
وكُنتُ أَجُسُّ نَجْمَكِ الراقد
في مَعْبَدِ السُكَّرِ
أدلُّكِ عليَّ
أرفَعُكِ مِن حَيْزُومِ المَركِبِ
إلى أعلى الصَّارِيَةِ
بجُفوني
ثُمَّ أُوْقِفُ الحياةَ
من أجلكِ
على فِرجار.
فأينَ مَضى كُلُّ هذا الآن
وما الذي تَبقّى منهُ
كي تَذْكُريهِ؟
6
في وقتٍ فاتْ، كانَ مِنَ الْمُمْكِن جِداً
مع القليل منَ الصَبرِ
والكثير من الإخلاص
أَنْ أَتَحَوَّلَ إلى رَاهِبٍ
وأنْ تَكُوني أنتِ
كنيستي.
في وقتٍ فات، كُنتُ أدُقُ عَلَيكِ بِقُوَّةٍ
كالسَجِيْنِ من وراء الزُّجاجِ
من وراءِ المرآةِ
من وراءِ العالم
أُحاولُ كَسْرَهُ
ولا تَسْمَعِيني.
في وقتٍ فاتْ، وأَنْتِ تَخْتَالِينَ أمامي
مُتَبَرِّجَةً كَشَجَرَةِ الميلادِ
خارِجَةً داخِلَةً
تكتبِينَ بِقَلَمِ الحَوَاجِبِ على جِلْدِي
تجرحينني بالدبابيس
تُلْصِقِينَ وَجْهَكِ بِوَجْهِي
في كُلِّ مَرَّةٍ
ولا تريني.
في وقتٍ فاتْ، كُنتِ معَ طَيْرِكِ
آكِلَ الكَرَزِ، مَلْهِيَّةً بِالخَدِيْعَةِ
تُقَايضِيْنَ الحَياةَ بِرقصَةٍ
عابِثةٍ
وتَضَعِيْنَ شَرِيْطاً أَسْوَدَ
على صورتي
كما لو أني مِتُّ.
وهكذا، شاءَ المَدَى أَنْ أَصِلَ
بَعْدَ لأي
مُتَزَنّراً بالحَرِيْقِ
وقَدْ أَعْمَتْني اللَّهْفَةُ
ولكن
أبداً.. أبداً، لم أعْرِفَكِ
ولم تعرفيني.
7
لقد كُنتُ هُنا، هُنا، أيَّتُها العَمياءُ
قَرِيباً من غَمَّازَتَيكِ
من حفِيفِ أَثوابِكِ
من شَهِيْقِكِ وزَفِيْرِكِ
من شُعُورك بالقَطْرَةِ تَسِيلُ
بينَ نَهدَيْكِ
من المِخَدَّةِ المَحْضُونَةِ بِذِرَاعَيْكِ
من ظِلِّ لِسَانِكِ الْأَوْحَدِ
ومن خلفِ ما لا تتوقعين أبداً.
لقد كُنْتُ هنا، بالضَّبط
في تلك النُّقْطَةِ التي تَنْظُرُ إليها
جَميعُ العُيُونِ وسَطَ
تلك المرايا
وتَنكَسِر.
*ديوان: آلام طويلة كظلال القطارات
الحنينُ إلى التبدد
«ميسون صقر»
إِخْفَاءُ الجُثَّةِ
يَا أُختَ حُرقَتي
لا تنتظري النَّسُورَ الَّتي سَتَنْهَشُ لَحْمِي
إِنَّهَا نُسُورٌ شَرِسَةٌ وَجَائِعَةٌ
سَتُخْفِيَ جُثَّتِي فِي لَمْحَةِ عَيْنِ
دُونَ الحَاجَةِ إِلَى مغْسَلَةِ الْمَوْتَى،
وَالْكَفْنِ الْأَبْيَضِ،
والمقْبَرَةِ …
أَو إِلى البَحْثِ عَن طَائِرَة تَحمِلنِي وَحيدَةً إلى الوَطَنِ.
عُودِي إِلى العَائِلَةِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً
ادْخُلِي الْكَنَفَ الَّذِي تَرْضَيْنَهُ
اترُكيني ميتةً وافتحي الشُّباكَ، اتْرَكِيهِ مَفْتُوحًا وَاذْهَبِي
سَتَخْرُجُ الرَّائِحَةُ
وستدخلُ النسورُ ناهشةً ابْنَةَ الصَّقرِ.
*ديوان: أرملة قاطع الطريق
جريان في مادة الجسد
“تقطعُ الليلَ في الغفوات المتتالية
كتبٌ من الموتِ تفتحُ لي صفحاتها
ولأنني قريبة منهُ
ولأنني أهزُّ شجرة اليقين فيَّ
لا بيت، لا غرف، لا حوائط، لا شواهد
لا أم، لا أب، لا حنان
لا أحد يمدُّ لي جسداً
لا أحد يستطيع
…..
حالة البدء في الخلوص
حالة وحيدة في التفرّدِ”
الليلُ ظلّ الجسد
ارتيابُ القدم بين الساقِ والطريق
فتحٌ لعينة تُغمض عليّ تنفسها
وتدنو الأحاسيس نحو ابتلاعي
لستُ مرهونة لجفائها
ولا بصحراء جُنوحي موثوقة
هنا تابوت يبحثُ عن موميائه.
هنا ظلٌّ حائر لتاريخٍ تهدَّم
الباكون في الأزمنة المتحجّرة ترهّلت دموعهم
العاكفون على تعليق فوضاهم فوق ستائرنا
تلك ستائر أذابها فعل أخرق لزمنِ رياحي
وبفعل تهتك بكارة ليلنا بالضوء
واسترسال سيولتنا في البحث عن مضامين تبدلنا
جميعهم تفجروا في ليل يسقط فيه جسد أعزل
ولا ظل يحتويه.
الموتُ لا يأتينا حين نَتَأهب له
والجسدُ لغةٌ بها أبتدئ:
كلُّ قبيلة مسودة لتاريخ قَمعي
كلُّهم ضلفة باب يسد عليَّ قامتي
كلُّهم أهالوا ترابهم
وحاكموا بؤرة تُفَجِّرُ ماءَها بالنضب:
فراغُ البيت من الحبِ
فراغُ البلاد من الرياحِ
المرايا لا تعكس وجهاً تعرفه على هواء حار
سأكتبُ الهدوء مشمولاً بصخبي
وأصارعُ كي أدخل باباً صعب الفتح
بإضاءة الوقت
وأكونُ كما لم أكن … من قبل.
(مقطع من القصيدة)
*ديوان:جريان في مادة الجسد
الحنينُ إلى القُبلة
«علي المازمي»
هل طعم الدم لذيذ؟
الذين أداروا ظلالهم في اتجاهنا
كانوا وحدهم
من عرفوا
اتجاهاتِ السكون.
لأني أفترسُ قاتل الذبيحةِ، بعد أكلها،
لا أقربُ نهدًا ميتًا
ولا آكلُ سوى الحياة.
تهُبُّ مع ارتطامِ خدي الأيمن ونهدها: رياحٌ قديمةٌ
لأتساءل في أي تاريخٍ يعبقُ لقاؤنا هذا؟
وعن الذين سيولون أدبارهم، لو تحققت فكرةُ التقبيلِ الآن، ستلاحقهم لعناتُ ربَّةِ الشفاهِ.
أحرِّكُ إحساسي بهدوءٍ اتجاه فمها، أرتكبُ خطأً
تقرقر معدتي الخاوية،
فتلمحني شفاهها،
وبصوتٍ هادئ تقول:
التوت جميل،
وهل طعم الدم لذيذٌ؟
أقعُ أو أكاد، وظلي يمُثّلُ الموتَ على الطاولة خلفنا، تُحرّكُ شفاهها برشاقةِ راقصةِ باليه، ولو أطالت في حرف الواو لسقطنا في الفوهة.
من أين أنزفُ هذهِ المرَّة؟
جسدها مزين بسكاكين مُسَنَّة
وكلُّها أبعاد حادة
ومعادلات عصيَّة
لأظفرَ بالمرورِ،
لأستطيع نزع الفتيلةِ دون انفجار
أحتاجُ
من أسلافي التمائمَ،
من أصدقائي الغدر،
من أمي الموت،
من النادل كأسًا تفوح منه الريح القديمة
لأتمكن من التأنسنِ
من التخلي
من أن أُخطئ دون أن أفتح النار على جماجمي:
أحتاجُ أن أتذكر ليلة الميلاد
ما سمعتهُ قبل أن يُتمتم والدي في أذني.
إذًا سأسمحُ لي، أن أجرب الكلام وأختبر سرعة الضوءِ،
أن أُقبّلها وأعود إلى زمني قبل تقبيلها
هكذا أكونُ
أعدتُ للفيزياء هيبتها
وكسرتُ الزمن،
أكون قد لمستُ استنارات الأوائلِ
شيَّدتُ من رغبتي طريقة جديدة لمن
أراد أن يتصوفَ
بلا آلهة
أو قواعد
ها قد نفثتُ في طُهرِها أعتى سمومي
أقسى ما جرَّبتُ من اللذاتِ
هيا بنا
فلنسفك الدماء
دعينا ننساب من قلوبنا
عراة من الورق
أمام بوذا
وعلى سفح الجبل
نقتلهُ، كفكرةٍ لم تكن
ثم نتزيّن بالجنايةِ
تعالي…
لأني لو لم أقبلكِ
لن أكتب قصيدة.
الحنينُ إلى الذاكرة
«حصة العامري»
لا أحد – كالتعب – يتذكر الأشياء كلها
أغلقَ عينيه، منتظرًا
تجيء الكوابيس
إلهامًا لاشتعال الحدس
وتجيء الوجوه
غَبرة، لصيَّة
يهمس الأمواتُ في أذنيه الوثبتين
ليقظاتٍ موهومةٍ.
لا أحد – كالتعب – يتذكر الأشياء كلها
دون أن يشعر به أحد.
عندها سيعودون الرفاق أخيرًا
مُثقلين بالاكتراث الذي لا يُعوَّل عليه
مُلقين سرابيلهم
وشرايينهم
في محطة قطارٍ وحيدٍ لا ينطلق.
يعودون باردين
ينفضون الروح
من ماء البيوت
وأُمهات البيوت..
يقتفون الظلَّ والغبار..
لا كتب في الأدراج
لا عقاقير منومة
ولا صورًا فورية.
البيوتُ هنا
البيوتُ الآن
تتسلق على جدرانها أرجل العناكب
وصدوع التهالك
وبعضًا من صدى الأب الذي يبدو ككلِّ الآباء..
يسأل عن عشاء الليلة بفمٍ يدخن.
الحنينُ إلى الهاوية
«أحمد عبيد»
صمتٌ طويلٌ ويدٌ تبحثُ في الهاوية
لماذا تركنا البُكاء في مدينةٍ تَسحقُ البشر، وفي عتمة الطرقات تتبارك الأمكنة عند سقوط المطر .. على جدارٍ مُصاب بالرُّعاش. لماذا تركنا تنهدات وأبواب تحتضر من القلق؟
السجن مسرح في مُذكّرةِ لص. بقاء أزرق يستنشقُ ضوء الحياة. موجٌ أغوى العاصفة إلى الكهف. أيتها الفكرةُ المارقةُ لقد أذبلتِ رئتي! فلِمَ قفزتي أمامي كامرأةٍ بسيقانٍ خشبيةٍ حتى السّماء؟
منذ الصباح الباكر، وأنا أتأمَّلُ نافورة الموت. صراخ يتسللُ في ممرات الروح السريّة. نوافذ سوداء تُفتح فجأة، فتدخل ظلال مريضة مقطعة الأوصال؛ وأخرى ممسوسة تحاول الوصول للقلب.
يومٌ بلا ذاكرةٍ، أفرغنا فيه كل ما نملكُ من سَهرٍ. غَسلنا الدرب، وودعناهُ، وعدنا غرباء نبحث عن مأوى.
جسدٌ في مقهى مُعتمٍ، بين أصابعهِ تدور أقمار وشموع. جسدٌ هو الذي يحدِّقُ بعينين من غياب، فتتدحرج زجاجة على سلّم النجاة.
سأتسكعُ في ظهيرةٍ صماء، لا أحد يتنفس فيها. وجهي ينعكسُ في الزُّجاج، والزّجاج مكسور والحياة سوداء. فماذا أفعل؟ الريحُ تنقشُ ورق الخريف في كفي، وأنا أطحنُ كل ما أشاهده وأحرقه في مبخرةٍ، كي يخرج خيالي الشتوِّي.
العالمُ مُرٌّ كالعلقم، والرعد مصحوب باللعنات. فكيف نرجع للبيتِ، إذا السّماء فتحت مزاجها العكر؟ وكيف أعبرُ المستنقع وحيداً، والفزع يغلي تحت شعري المُستعار؟
الحنينُ إلى الصحو
«إبراهيم الملا»
الإرث
خُذيني لهذا اليباب الأليف
لم أعد أطيق السماء الخفيضة
ولا يدَ عندي لاقتطاف الظَفر
قولي للسدرةِ البعيدةِ
إنَّني هالكٌ لا محالة
وإن التماثيل مالت بقربي
فاسترحنا في انهدامٍ عريقٍ
قولي لماء البحيرة، إني مثقلٌ بالندى
وإن الهوى في صدري شوك
والمزامير غامت في أدمعي
قولي لهم:
إنني قادمٌ من عراء
وذاهبٌ لعراء
وكلُّ البيوت تراءت لعيني
ولم تشفع لخطوتي عَتَبة
ولا عالجتني النوافذُ بالفضولِ
استرقتُ خرابي ومضيتُ
استندتُ إلى الوديان
وأخذتُ أُلمّع ثماراً من حجرٍ
ملء الجبال كانت
وملء سَقطتي
قولي لهم يا حبيبة
إني في الرماد مقيم
وفي قلبي ماسةٌ مُطفأةٌ
وإني حَجَجتُ إلى البَراري
كي أروّض ظلي
ويكون عوائي خفيفاً
على القُبرات النائمات على الأضرحة
ما زلتُ أجثو على تعبِ الرمال
وأخيطُ المتاهةَ بإبرةٍ في العين
وبالعماء الطليقِ
قولي لهم أيتها الرحبة
مثل المياه قبل بدء الخليقةِ
قولي لهم يا حبيبة
إنني بالغرانيق هائم حدّ الغيوم
وإنّي كتمتُ غصّة البُركان بحلقي
واكتويتُ
ثم اكتفيتُ حدّ الصراخ المؤبَّد
ماذا جنيتُ من الهدوء؟
وأيُّ صخبٍ جليلٍ للمراجيح الخاوية
أيُّ طفلٍ قتلتهُ في الظَّنِ
ورفعته على شهقة الذكريات المُقفلة
قولي لهم يا حبيبة
إني عثرتُ على النهارِ الضَّريرِ
وإني اتكأتُ على وردةٍ عابرةٍ
فما عثرتُ على طريقٍ ولا استرحتُ
وإني عانقتُ السَّرابَ
واكتحلتُ ببرقٍ
فأين السبيل
لعافية مشتهاة كالحبِّ؟
أين القناديل التي هشّمتُها بذهولي؟
أين السكون محتشداً في ضجَّة الأجراس؟
وأين القبور السعيدة للعصافير العالية؟
قولي لهم يا حبيبة
إنني عاطل كالدُّمى في غرفةِ ساحرٍ
وإني سهرتُ والآبار حدّ الثمالة بالظمأ
فما عثرتُ على ذهبِ الكلام
ولا فضة تتدلى من الشُّحوب
ولا نار بقربي كي أهيم
والفراشات بعيدة
قولي لهم يا حبيبة
إنَّني غامرتُ بصحوي
ورافقتُ الصحاري إلى آخر قطرةٍ
يابساً مثل روحِ الغريقِ
ولا زَادَ عندي سوى صرختي!
*ديوان: تركتُ نظرتي في البئر
الحنينُ إلى الموت
«علي العندل»
تُطاردني الأواني
عيناكَ زائغتان
ونبضُكَ
في كلِّ المواسمِ خريف
أصباغُ الدماغ صفراء
وقنينةُ السَّمِّ خضراء
كلُّ القمصان لا تليقُ بي
أريدُ غابةً بعيدةً
كلّ أشجارها أنا
.. تُطاردني الأواني
والصدأُ يزرعُ الرُّعبَ
في قلبي
إلى وجهٍ لا أملكهُ
سأغرقُ طويلاً
رحلاتي روح غرفةٍ
الموسيقى!
تُبكي سُباتي
ولنبض العطش
أغسلُ قلبي بماء
الورد…
…. أبدو غريباً
.. ملعوناً
تلفظني أفواهُ
الأطفال.
أمردٌ هو نُواحي
أضمُّ إلى صدري
بُقعة انزواء..
أختبئ من وجهي
.. رعبٌ
هو
أنا
أجتاحُ قلبي بالسكاكين.
.. القفلُ يا صُداع بابي..
اعتزلتُ إغراءَ المفاتيح
زاويةٌ صغيرةٌ
تُكبِّلُ كل العالم
أمام وجهي…
.. لا أفقهُ ألعابي
خرابٌ وجودي
كما رُباط العنق
حبلُ مشنقةٍ
أصبحتُ مرهوباً
شعراتُ جلدي
واقفة.
مُتأهبٌ للرحيل
أترصد قدوم
الشللِ..
.. الأطفال
أظافر طويلة
غداً يكبرون
هم أيضاً
لنهشي مباحون..
.. في المرآة
وجهٌ أحمق
مُرقَّطٌ
بخيوط العناكب
تلد المساءات
خيبات المستقبل
تمضي…
وفي قلبكَ الزنزانة
القيدُ في الرأس يعتلي
تخور كلّ البقع
تتحول كلّ الألوان
إلى ألعابٍ مرعبةٍ
لا أملكُ شيئاً
الهذاءاتُ هربتْ
أيها المتنجّسُ بالموسيقى
قلبُكُ ليس قلباً….
أيها المتنجّسُ بالموسيقى
أمراضكَ
تطردُ الثعابين
أوكارها
تخلو لكَ..
.. لكَ وحدكَ ..
*ديوان: سيف الماء
الحنينُ إلى الأُلفة
«ثاني السويدي»
وجه آخر للورق
آه
سئمت المرآةُ وجهي حتى عُمِيَتْ
تريدُ ملابسَ نظيفة كالغُبار
ووجهاً جديداً كالنخيل في الذاكرة
هذه المدينة خارج العطش
رصيفها يستنشقُ الحِداد
مُغلق وجهنا بالحقول
فانتزعيني من أدراج الشجر
وكلليني بالمغادرة
لإلغاء المسافة بيننا علينا أن نقطع أقدامنا
نسينا البحر في حذاء طفل
نسينا القمر في صوت السنابل
وقبل ليلتين
نسينا صوتنا في الحلم
والليلة الماضية تركنا الحلم والليل
يتحدثان بحجم فجيعتنا.
لك الآن أن تُشكلي من قلبي عواء السحب
مزدحمٌ أنا بأوجاع الشهوة
يخرجُ من فمي دفاتر وبؤساء
ولهجة كما لو أن البحر يصرخ في الماء
أين افتراق الزجاج عن المرآة
أرى منه رجلاً يأكلُ خُبزاً ويشتمني.
*ديوان: ليجف ريق البحر
جمع وإعداد: موزة العبدولي