فوق أصداءِ الموت – محمد الشريف


رأيتُ تخثُّرَاً لرعشتِها، لما لفّنا الظلامُ، يتسَللُ من لهْثِها، وقطراتٍ نشرَتِ الضوءَ، فصار تائهًا، فما الظلامُ سألتُ: يتهادى بين الهمساتِ نابعاً في الضَحِكاتِ الهشَّةِ ظامئٌ للبرقِ الذي سيجيءُ، يتفيَّأ من شرايين الخوفِ، قابضاً نحرها المرتجفَ، متمايلاً مآلهُ القاتمُ، ماحياً حتى التلاشي الأخيرِ، طاوياً كل صفحةٍ من فرائضِ البوحْ، قاتمٌ بمساراتٍ يهُدُها بأعتابِ الحيرى، حافراً الموتَ واللحمَ، ناشلاً بيدهِ حديثها الموسيقيِّ ، ساهماً مع دموعها الساخنةِ، كعوبٌ تتعثرُ في الثمالةِ، تَذَكَّرتْ، تَباعُدَ طرفيها مجروحة بالشَّهقاتِ الطاعِنةِ، وأنفاسٍ كريهةٍ، تُلطخ بشرتها، ظِلها يعومُ في الأجسادِ العابرة، نشيجاً، يَحبِسُ التقيأُ، دُحرَ بالضحكات المُنتزعة، ولبنها الحنونُ نهاراً يتدلى.


هنالكَ في المنزلِ القديمِ تَتذكّرُ وتنهمِرْ، إذ تشرئِبُ بعينيها أناملُ الذكرياتِ في فوضى، ناسجةً خيوطاً قديمةً، لطفولةٍ لاعبتها الريحُ، سكنت حركاتُها فجأة، جامدةً على أمهِا قِطعاً صغيرةً متفحمة، لما انتشلت من بينِ الرُكامِ، وضربوا على صدرها رجاءاتِ الحياةِ الأخيرة، فشهقت ووضحَ اللحظُ، وانهمر المعنى من عينيِّها، مُتجلياً فوقَ العتماتِ العميقةِ، كالنورِ على أسطحٍ غائرةٍ مدورةٍ شفيفةٍ، من بلورٍ تخونهُ الرقةُ، كذا قد تهشَّمتِ المَناخرُ في انهيارها. تتماسكُ بالأظفرِ الصغيرِ المدمى محوطاً بالهاوية: وحوطتُها، فتعني النَّعي، تختلُ اهتزازاً بالخوفِ، فترتكب الصراخَ والصدى، متمزقاً شظايا هديرية تنثُرُ الدّمَا، يتلوى في الكمائنِ على الرجلين رَشُّ فرجها، واقتربت الرؤوسُ سكرى، فاستقرا فوقَ التابوتِ أسفلَ مطرٍ تلاشى رنينه.



إنها تعاويذُ مسبحةٍ تاهت وراءَ رائحةِ الموتِ الأخيرةِ، بينَ أصابعِ الفقدِ، تندُبُ السؤالَ الضائعَ، الأملَ، وكلماتها سليلاتُ صحراءٍ نائيةٍ، قفصٌ للوردِ الشاحبِ انزلق ردحاً على حظوظِ الصوتِ، في ذكرى أنّاتها المرتعشاتِ من اللذة، الآن معاً نتذكرُ، فعلى القبرِ ترتعش قدميكِ ونحن في الأحضانِ نصعدُ وصراخُنا وراءَ الحدودِ العقليةِ، نضلُ أسفلَ قناعِ البوحِ، ونخيلِ القومِ ترتجُ ترتجْ، ودمُ النهدين انتصبا، حبلى مسافاتِ الأنفاسِ اللاهثةِ، تَرِنُ عليها الرؤى، والذكرياتُ، وتقلِمُها الشِّفاهُ العطشى، محلقةٌ فوق ندباتِ الدمعِ: التحموا ومضوا يخذهم الموج بعيداً، فائضٌ من الأرضِ أخرج أصابعهُ يقبلُ أناملها التي تخوضُ في الحرارةِ، من بينِ الأصابعِ خاضاً في تلويحة الأيامِ عنيفاً يُغمضُ يديه في الأنينِ الطريِّ، يرفعهُ إذ يطوي السنينَ بعصرٍ يعنيهِ في عُنفهِ مُنتزعها بالشهيقِ، فيدكها أصواتاً تهبطُ من السماءِ إلى جُروفِها، مقترباً بها من حوافِ الجنةِ العُليا، ومناسباً ترجيعَ صُراخها العذبَ، يتهادى في المغيبِ مجروحًا. صعدا ، فنضحت أجراسُ الأجسَادِ عرقاً، سقطتْ يدي المتشنِّجةُ حيثُ تمَشِّطُ الأرضَ راويةً طريقها بالصرخاتْ، غبتُ في التوّ والشمسُ تاهت بأدراج الغروب المثلومةِ، ولا زالت أصداءُ القُبلِ فوقَ الجثامين تزحفُ، ولا زلنا ننتهِكُ ظِلّينا فوقَ أصواتِ الموتِ.





*نص: محمد الشريف

زر الذهاب إلى الأعلى