في مقهى “كوستا” جاءت وجلست على الطاولةِ أمامي
مع أنَّ المقهى خالٍ من الروَّاد في ضُحى يُجاهد عبثًا لانتزاعِ شعاعٍ من
سماء لندن الطلساء. كنتُ أفكِّر في قصيدةٍ فيها فتاةٌ تأتي وتجلسُ أمام
شاعرٍ يُحاول أن يكتبَ قصيدةً عن فتاةٍ تأتي وتجلسُ أمامه في مقهى
خالٍ من الروَّاد.
وضعت الفتاةُ كُتبَها على الطاولة وحقيبتَها على الأرض ونَضَتْ
عنها سترةً عنابيَّةً من الجلدِ الصناعيِّ فتساقطتْ قطراتٌ من المطر
واندفع نهداها القاسيان إلى الأمام وارتجَّا خلفَ بلوزتها .
مالت على حقيبتها فتهدَّل شعرُها فلمَّتهُ بحركةٍ سريعةٍ إلى الخلف،
أشعلتْ سِيجارة وأخذت ترشفُ قهوتَها وهي تنظر إليَّ بزاويةٍ منحرفة
من عينيها.
أكثر من مرَّةٍ هَمَّت أن تقول شيئًا ولم تفعل وأكثر من مرَّةٍ هممتُ
أن أتحدث إليها وأتراجع.
ببلوزتها الزرقاءِ نصفِ الكمِّ التي تكشف زنديها المبرومين وبكتفيها
اللتين تنطُّ منهما فهودٌ صغيرةٌ وبقدمها التي تتحرَّك تحت الطاولة
على شكلِ مِروحةٍ
كانت تشبهُ فتاةَ القصيدة.
كلُّ الإشارات تدلُّ عليها.
كان وزن الهواء وحركته يتغيران تحت الطاولة.
أوقعتُ قلمي، كما لو سقط عرضًا، على الأرض، لأرى ما الذي يجري
وما إن التقطتُه ورفعتُ رأسي حتى اختفت الفتاة.
كان على الحائط أمامي ملصقٌ إعلانيٌّ كبيرٌ لفتاةٍ تجلس وحيدة
تدخن وتحتسي قهوة وتنظر بزاويةٍ مُنحرفة من عينيها في مقهى
يُشبه هذا المقهى.
*********
دوامةُ الهواءِ ما تزالُ تحتَ الطاولةِ
فنجانُ القهوةِ الساخن
السيجارةُ المدخَّنةُ على حافّة المنفضة
المنديلُ الورقيّ المبقّعُ بأحمر الشفاه
قلبي الذي تُسمَعُ دقَّاته من بعيد.
القصيدةُ التي فكَّرتْ بقصيدةٍ أُخرى وكَتَبَتها.
من كتاب: حياة كسردٍ متقطِّعٍ