قافلة الكلاب – سماء عيسى

أشخاص:
بلدان:

مرَّت قافلةُ كلاب، كنتُ قد احتميتُ بجدرانٍ آمنة، الساعةُ كانت الثانية فجراً، بعدها ظلَّت تَعوي عُـواءً مُـراً، لم أجد ثمة مـن داعٍ كي أفيق وأتابعها، تركتُها تنبحُ وتدورُ حول الجدران الفاصلة عني إياهـا، ثـم رحلـتْ وسـاد المكان هـدوءٌ تام. غير أن ابنتي اقتربتْ مني وقالت: لمَ أنتَ غير قادرٍ على النوم يا أبي؟ قلتُ لها: الكلابُ أيقظتني بعوائها، قالت: لم تأتِ الكلابُ هُنا ولم يعـوِ كلبٌ في هذه الحارة منذُ زمنٍ بعيد، ربما مرَّ عليك في المنام كابوس ثقيـلٌ يـا أبـي. إذن سأعودُ إلى فراشي، ولكن لا تفتحي البـاب أيتها الصبية، حتى لو لجأ إليكِ هاربٌ من كلاب الثانية فجراً.

 بكتْ ابنتي وقـد مـرَّ على قلبهـا خـوف وهلع، قافلـة الـكـلاب تلك، كـانـوا بـشـراً مسحورين، وكانوا يعدون منادين ذويهـم لتخليصهم من السحر، ومِن مَن سكنَ ذلك الحي فقد عزيـزاً، كـان عليه التيقّظ وفتح باب منزله ليدلف إليـه ابـنـه أو ابنته المسحورة، ثم وعندما يُغلَقُ عليه الباب، يقوم بضربهِ ضَرباً مبرحاً حتى ينفكّ عنه السحر، وإن لم يكن ذلك، يُغلق عليه باب غرفة ما، ويبدأ الاتصال بـسحرة الأرض وإغرائهم بالمـال وتلبية طلباتهم كـي يعيدوا إليه فقيده إلى حضيرة الإنس. قالت ابنتي: حسناً فعلت يا أبي، أنتَ لم تفتح الباب، فنحن فقدنا أختاً صغيرة، قبل أعوام بعيدة، ربما تكون واحدة مـن ذلـك القطيع المهاجر من الكلاب الضالة، حسناً فعلـت يـا أبي، هي الآن أكثر سعادة في عالم الكلاب عن عالمنا الإنسي هذا.

الكارثة أننا على اثنين، منذ أن تركنا الحياة على أربعة أطراف؛ بدأت مأساتنا، لقد عادت صغيرتنا إلى الطبيعة الأولى، ولن تعاني بعد اليوم من آلام العمود الفقريّ، وهي أيضاً لن تستخدم السلاح ولا الحصى في قذف الآخـريـن، ستظل هكـذا أسيرة أطرافهـا الأربعة، فضلاً عن أن عمرهـا كـكـلـب لـن يطـول كثيراً، أعمـار الكلاب لا تتجاوز العشرة أعوام، ثم ترحل وتنفق، وبعدها تُرمى مع القمامة بعيداً. لقد رحلت صغيرتكَ يا أبي، وعندما تعود ثانية وتنبح طويلاً أمام المنزل، تيقظ وانظر إليها نظرة حب ثـم قـل لها وداعاً، ولا بأس من أن تمسح عن عينيها قطرات دمع حبيسة ذرفتها.

ثم مـن تلقاء نفسها سترحلُ إلى الأودية البعيدة، وأعتقدُ أنهـا لـن تـعـود ثانيةً إلا في موكب جنازتكَ، ستسيرُ مُبتعدة عن البشر، حتى لا تثير شكوكهم فيلتفت أحد إليها، سيكون بكاؤهـا عليـك صامتاً، ولكنني سأتعرف عليها من خلال الدمع الحبيس في عينيها، والذي لن يجد أحداً لمسحه مـن وجنتيها، ستكون تلك آخـر زيـارة لها إلينا، بعدها سترحل إلى أوديتها البعيدة، ولن تعود ثانية حتى مماتها.


*نص: سماء عيسى
*من كتاب: أبواب أغلقتها الريح


زر الذهاب إلى الأعلى