السقوط الأخير – محمد القليني

السقوط الأخير

رغم تفوقه رفضوا تعيينه في النيابة، بحجة أنه غير لائق اجتماعياً، فأبـوه الـذي راح مع أخيـه في حادث سيارة كان ساعياً في إحدى شركات القطاع الخاص، ومنذ أن صار شيالاً في مخزن أغذية، وهو يستيقظ قبيل موعد حضوره بدقائق، فيسارع بالغدو مرتدياً قميصه وبنطـالـه أمام البـاب. وفي هذا الصباح، وقبل أن يخرج، حانت منه التفاتة إلى التلفاز الذي يتركه مفتوحاً دائماً، رأى مذيعة مذعورة تلقي خبراً عاجلاً: «استيقظ المواطنون اليوم فوجدوا الشوارع قد اختفت».

لـم يصدق ما قالته، فلو كانت الشوارع قد اختفت كما تزعم، فما الذي يحمل المباني ويمنعها من السقوط؟

لكنـه وقف حائـراً في مدخل البيـت، كان بعـض جيرانه واقفين يتبادلون نظرات الحيرة نفسها، فباستثناء البيوت التي طفت أمامهم لم يكن هناك غير العدم.

أحـد الجيران ألقى نفسـه أمام المدخل، آمـلاً أن يجد أرضاً صلبة يقف عليها، حاول أن يمنعه، لكن الجار العصبي كان أسرع، ولدقيقتين كاملتين ظلت صرخته تدوي في رؤوس الجميع، صاخبة في البداية، ثم أخذت في الخفوت شيئاً فشيئاً حتى تلاشت تماماً.

عاد إلى شقته مرة ثانية، وهو يفكر فـي طريقة تمكنه من الذهاب إلـى العمل، فاليوم يتقاضى أجر الأسبوعين الفائتين، وثلاجته خالية من ثلاثة أيام أو أربعة، ثم إن أمين المخزن الذي بيده الأمر ناقم عليه لأسباب لا يعرفها. نظر من النافذة، لأول مرة يفتحها منذ وفاة أمه، وجد نسوة فزعات ينحن في النوافذ المقابلة، فأعاد إغلاقها على الفور.

أين ذهبت الشـوارع؟ انشغل عن أنين معدته بخلع ملابسه، وفتح الدولاب ليرتدي منامة نظيفة بدلاً من تلك التي تبولت عليها الكوابيس ليلة أمس، لكن لدهشته لم يجد في الدولاب أي ملابس، حتى الأوراق التي اعتاد رصها على الرف اختفت بدورها. ما أدهشـه أكثر، وأثار خوفه ورعبه، هو أن الشوارع التي اختفت من المدينة كانت متراصة في دولابه بانتظام شديد.

عارياً وضع قدمه اليمني في الدولاب، محاولا أن يتمالك أعصابه، وعندما استقرت القدم في أحد الشوارع سارع بوضع القدم الأخرى. كان الشـارع خاليـاً تماماً، بلا بيوت على جانبيه، ولا سيارات، ولا بشر يروحون ويجيئون، فقط أشجار مثمرة تتابعه بكسل، ونهر يلوح في نهايته.

فكر في أن عليه الخروج من الشارع إلى الدولاب، ثم إلى حجرته، ومن ثم يحمل الشـوارع شـارعاً شـارعاً على كتفه، معيداً إياها إلى أماكنهـا القديمة. وفكر في أن عليه البدء بشـارعه، ثم الشـارع الذي يليـه، ثم الذي يليهما، وهكذا إلى أن ترجع المدينة كما كانت، بالضبط كما لو كان يعيد قطع لعبة «بازل» إلى أماكنها. فكر أيضاً في أن ابنة أمين المخزن الذي يضطهده على وشك الولادة، وتحتاج إلى الشارع كي تذهب إلى المستشفى، وفي أن جاره الذي سـبه منذ أيام لا بد أن يمـارس رياضة المشـي كما نصحه الطبيب، وإلا تصلبت عظامه، وفي أن حبيبته التي هجرته لتتزوج رجلاً غنياً لا يجب أن تسقط في العـدم بعد أن ينفد طعام صغيرها. فكر في أن عليه أن يسـرع، وفكر في أشياء كثيرة، لكنه لم يفكر في أن الدولاب قد أغلق تماماً، بحيث لن يستطيع فتحه من الداخل، أما من الخارج، فلم يحدث قط أن زاره أحد.


سوق الوحدة

قال الطبيب للمرأة: «أنتِ حامل»، فطفقت دموع الفرح من عينيها وهي تتنهد: «أخيراً». على شاشة جهاز السونار نظرت بحنان إلى ما يشير إليه الطبيب قائلاً: «مجرد قطنة صغيرة، ستكبر مع الوقت».

لم يمض شـهر حتى أشـار الطبيب إلى شيء ينبض على الشاشة، وهتف: «لقد نبتت له أزرار». ولم يمض شـهر آخر حتى رأت على الشاشة كمين قد اكتمل نموهما، وياقة تكاد تكتمل.

 بعد مرور تسعة أشـهر إلا أياماً قليلة، وبجراحة قيصرية، أنجبت المـرأة قميصاً صغيراً تركـه الطبيب نائماً فوق ذراعها، ظل القميص يبكي من البرد والجوع، بالنسبة إلى الجوع فقد ألقمته ثديها، أما بالنسبة إلى البرد فكان عليها أن تتعافى سريعاً حتى تشتري له طفلاً يرتديه.


*نص: محمد القليني
*المصدر: طعنات الموسيقى، محمد القليني، دائرة الثقافة، الشارقة. 

زر الذهاب إلى الأعلى