جسدٌ ذاهبٌ ينتحبُ في دمائه الأنبياءُ.
ليس إلا أن أضعَ قلبي، مثل نيزكٍ مثقوبٍ بالصدأ، تحت العجلات الضارية لتضرب في العَظم، ولتكن صاعقةُ الليل وسادةً للمُكابر.
أنا الواقفُ في الهذيانٍ، أكتشفُ الآن بأني سهرت العمر أنسج هاويةً لخطواتي نأمةً نأمةً، زاعماً أنني القويُّ المقاومُ القادر على المُجابهات. أنا المخلوق الأضعف بلا يقينٍ ولا حُجةٍ. كابرتُ مثل جبلٍ يجهشُ في حضرة الغيم. كائنٌ يقف مثل فضيحةٍ في قلب الكاهن. شهوةٌ تـفتح النهاية، وتأخذ يدي بحنان الجريمة وكسل الأفعى، لكي أسقط مثل عروسٍ تفقد عفافها أمام الجموع في الساحةِ، وللناس دليلُ الدم.
ثمة شخصٌ يذهب ورقةً ورقة.
أنا قرينُ الوحشة، مُنتصَفُ الهزيمةِ، قاعُ الوهمِ، جنسُ الندم، أسنانُ الأهتم، ولعُ البهيمة، طنافسُ الشيطان، جهامُ العَسَس، هودج النومِ، خسائرُ الليلِ، غنج الذبيحةِ، جنة الجحيم محروسةٌ بهوام شرهةٍ.
لديَّ من الحقد ما يكفي قطيعاً من ذئاب الشهوة، ولكم أن تطلقوا دهشة الهجوم في أرجائي، دون أن ينتابكم ضمير الآثم، ولكم حريَّةُ الأسلحة لكي تأخذ نصيبها مما يتبقى.
أنا الخارجُ من صبر الناس، الملطَّخ بالخطيئة، رسول الكلام. لم يبق سوى نهاية تليق. أنا الوحيد الواقف في شفيرٍ شاحبٍ، ذهبتُ إليه منذ ذبالة الخيط البالي، متوهماً أنه أول الغَزلِ في وشاح العُزلة، وضعت روحي في المهب. قيل إن المجرات سوف تتذكر أهدابي. فلكم بهجة القتل، وأنتم تضعون نصال سكاكينكم في قلبي، تـفـرون اللحم وتطالون العظم، فتطفر فضةُ روحي في وجوهكم لصلافة الفتوى.
أنا الذئب الذاهب في ليل الملجأ، خديع الخبرة شاغلُ النيران مُشعلُ الفتن متعهد الهشيم جامحُ الدم متجهمُ القلب خدين الشياطين. ضبعٌ يلغ في دماء القتلى بأشفارٍ مرتعشةٍ شبقاً، وأنيابه تكزُّ على عظم الجثة، كما يخلع نبيٌّ قميصَه المهتوك. جديرٌ بكل ما تقدرون عليه من الفتك ولتكن حرياتكم راية الانتقامات.
أنا هدفُ القناصين، طاشت روحي بين أياديكم. تعفـون، ولا يليق بكم. أنتم أعذار القتلى، خطاياكم أكثر من براءة الطفل. ليس لكم أن تُبالغوا بيدٍ ترتجف وهي في مقبض المعول المثلوم بصدأ عتيقٍ كنبيذٍ فاض بي، ولم يحتمّل الصبرَ في نزيفٍ يذبح الخلايا. يوشكُ الليل أن يصير كفناً يرأفُ بالمتلعثمِ أمامَ الحب، المبتهج بنحيبِ المحتضرين، المتأرجف برهاب النصل من جهاتٍ جمـةٍ.
آن السفرُ
آن السفر، ولا رجوع.
لم يعُد في الفضاء هواءٌ لكي تأخذ الجثةُ شهقةً.
ولتكن منكن الوصيفات لهودج الليل. ولتكن منكن شديدات البأس ليأتي الحدادُ من الأقاصي. ولتكن منكن النائحات يدفعن بفرحٍ دفينٍ جثماناً يذهبُ.
وضعتُ قدمي في قوس الشنق بشهوة المنتحر. أكلَ الوقتُ مني، أكل الزهرة والغصن والجذع والجذور. محروسٌ بالحسرة والخوف، خفتُ من كل جهةٍ وكل شيء، وفاتني الخوف من نفسي، من دسيسةٍ تفسد الخطو والطريق. ملطخٌ بالخطايا والأخطاء، لا أشحذ رأفةً، وليس لكم أن تكترثوا بأملٍ ما، وما من برهةٍ للفـر من مجد المراثي وصرير النعش وسلطان الليل. ليكن منكم الحفارون ثابتو السواعد برفوشٍ تطال العمق من الأرض. وليكن منكم طغاةٌ يحسنون التجهيز بدقة الصائغ وبصيرة العالِم، ليبدو الجنازُ صارماً والنهايةُ مهيبةً، لتكونوا بأكبادٍ صلدةٍ، فلا تناوشَ أفئدتَكم رجفةُ الترددِ فيما تضعون الجثة في الغسل والكفن والنعش واللحد.
لا يليقُ أن أراكم مرتجفي الفرائص، تشفقون على ذئبٍ قانتٍ ينقذُه القتلُ.
*نص: قاسم حداد
*المصدر: قبر قاسم