جلستُ وحيداً.. على منأى من ذاتي – سهراب سبهري – ترجمة: غسان حمدان

شاسوسا (*)


*معبد ساساني قديم يقع شمالي مدينة كاشان وعند تخوم الصحراء.

بِمحاذاةِ حفنةِ ترابٍ،

على منأىً من ذاتي، وحيداً جلسْتُ.

تفتتَتْ الاهتزازاتُ

وَانزلقَتْ الأتربةُ من بينِ أصابعِي وَسقطَتْ.

أصبحَتِ شبيهة لا شيء!

عليْكِ بِإيداعِ وجهِكِ لِبرودةِ الترابِ

فَإنَّني قدْ أضعْتُ ذروَتي.

أخافُ من اللحظةِ القادمةِ، وَمن هذهِ النافذةِ المشرعةِ

على مشاعرِي.

سقطَتْ وَريقةٌ على نسيانِ يدِي: وَريقةُ أكاسياً!


كانَتْ تَفوحُ بِشذَى أغنيةٍ مفقودةٍ، بِشذَى تهويدَةٍ

تَتراقصُ على وجهِ أمِّي.

من النافذةِ،

أَلمحُ الغروبَ على جدارِ غرفةِ طفولَتِي.

عبثاً كانَ، عبثاً كانَ.


فَقدْ تَهدَّمَ هذا الجدار

على بواباتِ البستانِ الأخضرِ؛

 وَاندثرَتْ السلسلةُ الذهبيةُ لِلهوِ

 وَالنافذةِ المضاءةِ لِلأَقاصيص

تَحت هٰذه الأَنقاض.


فِي ذلك الاتجاه، يَتَراءى سَوادي:

لَقد وَقفتُ عَلى القُبَّة الطِينية،

مِثل حُزنٍ ما.

وَسَكبتُ نَظراتي فِي بُخار الغُروب؛

وَعَلى هٰذه الأَدراج جَلس الحُزن وَحيداً.

كان ثَمة انتظار مُحتار فِي هٰذه الدَهاليز.


انطفأتْ «أَناي» العَتيقة عَلى هٰذه القَنوات الفُخاريَّة الخُضر

وَفِي ظِلِّ ـ شَمس شَجرة الأكاسيا هٰذه

كانتْ «أَناي» تَتَفرَّج عَلى كُسوف الشَمس

بِخَوفٍ عَذب.

تَتَوهَّج الشَمسُ فِي النافذة،

وَامتلأتْ النافذة بِالوريقات.

تَدحرجتُ مَع وَرِيقةٍ،

فَاِنعقاد الخُيوط لَيس مَعي.

إِنَّنِي أَتَجرع هَوائي

وَعَلى مَنأى مِنّي، جَلستُ وَحيداً.


يَنْبشُ إِصبعيْ التُراب

وَيُبَعثرُ الصُور، يَتَدحرج، وَيَغْفو.

وَيَرْسم صُورةً، صُورةً خَضراء:

الأَغصان، الأَوراق.

أُحَلّق فَوق البَساتين المُضيئة

وَتَكْتظ عَينايَ بِالأَعشاب

وَتَنْعقد نَبضاتي بِالأَغصان وَالأَوراق.

أُحَلق، أُحَلق.

وَعَلى صَحراء نائية

تَحْرقُ الشَمس أَجنحتيْ

فَأُسْقط، فِي غَمرة السَأم مِن اليَقظة،

عَلى التُراب.

يَسِيرُ أَحدٌ ما عَلى رَماد جَناحي.

تَحنو يَدٌ عَلى جَبيني… لَقد أَصبحتُ ظِلاً:

«شاسوسا»، أَهذا أَنت؟

لقدْ تأخرَتَ:

انتظرْتُكَ من تهويدَةِ الطفولةِ

حتى اضطرابُ هذهِ الشمسِ.

وَناديْتُكَ في الليلِ الأخضرِ لِلقَنوات،

وَفِي فَجر الشَط، وَفِي شَمس الرُّخام.

وَأُناديكَ فِي عَطش العَتمة هٰذه: «شاسوسا»

اجْعل هٰذا السَهل المُشمس لَيلاً

حَتى أَعْثر عَلى مَسلكي المَفقود

وَأَذْوي فِي إِثر خُطايَ.

«شاسوسا»، أَيُّها العَصف الأَسود العاري

خيّم عَلى تُراب حَياتِي.

كانتْ شَفتاها مِن جِنس الصَمت.

انزلقتْ إِصبعها نَحو اللامكان.

بَغتَةٌ، تَناثرتْ مَلامح وَجهها،

وَخَطفتِ الرِيح غُبارها.

سرتُ عَلى الحَشائشِ المبتلَّةِ بِالدموعِ.

وَأضعْتُ حلماً بينَ هذهِ الحشائِش.

يداي ممتلِئتانِ بعبَث السعْي.



«الأنا» العتيقَة تسكَّعَتْ وحيدَة فِي هذِه السهولِ.

وحين ماتَت،

كانَت رؤيا القنَواتِ ورائحَة الأكاسيا

تفوحُ مِن أصابِعها.

مشَيَتُ علَى حزْنٍ ما.

قريبُ أنا مِن الليْلِ، وسوادِي متجلٍّ:

وفِي ليْل «تلْك الأيام» حمَلَت فانوساً.

شمَخَتْ شجرَة الأكاسيا فِي وهْجِ الفانوسِ؛

وقَد غَفّتْ أوراقها، فأمْسَتْ مثْل تنويمَةٍ.

أسمَعُ أُمِّي.

الشمْس ممتزجَةٌ بالنافذَةِ

وهمهمَة أُمِّي علَى إيقاع ارتعاش الوريقات.

ثمَّة مهْدٌ يتأرجَح.

خلْف هذا الجدارِ، ينحِتون جدارِيَّةً

أتسمَع؟


إِننِي أروحُ وَأجيء بيْن لحْظتيْن خاوِيتيْنِ. وكأَننِي فتَحْتُ باباً بوجْه برودَة التراب:

سطَعَت المقبرَة علَى حياتِي

تبعثَرَت ألعاب طفولَتِي علَى هذِه الصخور السودِ.

أسمَع الصخور: أبديَّة الحزْن.

كَم هُو عبَث الانتظار جوار المقبرَة.

كان «شاسوسا» قَدْ نبَت علَى الرُّخام الأسوَد

«شاسوسا» يا شبيهِي المعتِم!

إنَّنِي ملوَّثٌ بالشمْس.

اجعلنِي معتِماً، معتَماً تماماً؛

وصب ليْل هامَتَكَ في أعماقِي.


انظُر إلَى يَدَيَّ:

ينطفِئ مسلَكُ حياتِي فِيكَ.

طريقٌ فِي الخواء… رحلَةٌ إلَى العتمَةِ:

أتسمَع صوْت جرَس القافلَة؟

أصبَحَتُ رفيق سفَر حفنَة كوابيس.

بدَأ المسلَك مِن الليْلِ، وَوصلَ إلى الشمسِ،

وَيَجتازُ، الآنَ، حدودُ الظلماتِ


عبرَتْ القافلةُ جدولاً قليلَ العمقِ.

وَانهمرَ الصباحُ على الأمواجِ.

ثمةَ وجهٌ في الماءِ الفضيِّ يَهزَأُ من الموتِ:

«شاسوسا»! «شاسوساً»!

في ضبابِ الصورِ تَتنفّسُ القبورُ

وَتَنهمرُ ابتسامةُ «شاسوسا» على الترابِ

وَإصبعُهُ يُشيرُ إلى مكانٍ مفقودٍ: إلى كتيبةٍ!

الحجرُ يَتأرجحُ

تَتبرعمُ أزهارُ الأكاسيا في تهويدَةِ أمِّي:

إنَّ الأبديةَ في الأغصانِ.

جلسَتُ وحيداً

بِمحاذاةِ حفنةِ ترابٍ، على منأىً من ذاتي.
تسَّاقطَ الوريقاتُ على مشاعرِي.




*نص: سهراب سبهري
*ترجمة: غسان حمدان


زر الذهاب إلى الأعلى