المسافة السحرية – كارل ماركس إلى زوجته جيني

ها أنذا أكتبُ لكِ ثانيةً، لأنني وحيد. 

ولأنه يزعجني أن أناقشك في رأسي، من دون أن تعرفي عن هذا النقاش شيئًا أو حتى تتمكني من الحديث معي. 

يبدو أن الغياب المؤقت جيد، فالتعود على الأشياء من حولنا يجعلُ الأشياء تتشابه، ويصعبُ التفريق بينها. 

فالقُربُ يُقزّم حتى الأبراج، بينما توافه الأمور والمألوف منها إذا ما نظرنا لها عن قرب تبدو كبيرةً وذات أهمية. والعادات السيئة، التي قد تزعجنا جسديًا وقد تتحول إلى صيغة عاطفية، تختفي عندما تذهب مسبباتها من أمام أعيننا. أما المشاعرُ العظيمة، تلك التي تأخذ من خلال القُرب قالب الأمور الصغيرة الروتينية، تكبر وتنمو وتأخذ بُعدها الطبيعي على حساب المسافة السحرية بينها وبين الأشياء. 

هكذا هي الأمور مع حبّي الخاص، لقد خُطفتِ مني فيما يشبه الحلم، وها أنا أعرف بأن الوقت يقوم بما تقوم به الشمس والمطر للنباتات من أجل أن تنمو. 

ففي لحظات غيابك، يظهر حبي لكِ على حقيقته، كعملاق يجمع فيه كل طاقتي الروحية وكل خصائص قلبي. فهو يعيد شعوري بإنسانيتي لي مجددًا، لأني أستطيع الآن أن أشعر بهذا الشغف الجم. وذلك الافتراق الروحي الذي يوقعنا في شراكه البحث العلمي المعاصر، وهذه الشكوكية التي تجبرنا على إيجاد العيوب في كل انطباعاتنا الشخصية والموضوعية؛ كلُّ هذا مُصمَّم ليجعلنا صغارًا خائري القوى كثيري الأنين. 

لكن هو الحب، ليس ذاك الحب على أسلوب فيورباخ، وليس من أجل الاستمرار في هذه الحياة عن طريق تلك التغيرات الحيوية، وليس من أجل نساء هذا العالم، واللاتي بعضهن، نعم، يتحلين بالكثير من الجمال. لكن، أنّى لي أن أجد وجهًا كل خواصه، كل تجاعيده، هو عبارة عن تذكار لأجمل وأعظم لحظات حياتي؟ 

حتى آلامي المبرحة اللامنتهية، وخسائر حياتي الفادحة التي لا تعوض، أراها في محيّاك الجميل. إني أقبل الألم قبلة الوداع؛ إذا قبّلتك.

إلى اللقاء عزيزتي. 

أقبّلك وأقبّل الأطفال ألف مرة.

كارل الذي تملكين.




*نص: كارل ماركس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى