لمن أترك غيابكِ؟ – بسام حجار

أجرُّ نَهاري كعربة خيل ثقيلة. فلكلِّ نهارٍ حُطامَهُ وما جمعتُه منَ النهارات إلى اليوم جَبَلٌ أبذُلُ يَومي لإزاحته عن صَدري بمِعزقَةٍ. هي مِهنَتي، ومِهنَةُ مَن هو مِثلي، مِنَ الأحياء، عابري السَّبيلَ.

جاءَ نهارٌ ولم أنتبه، على الرغم مني حين ماتوا جميعاً، أقصدُ من أحببتُ مِنهم ومن أحبَّني. لم أنتبه. ثمَّ يأتي نهارٌ آخرُ، بمَحضِ المُصادفة، أجرُّهُ كعربةِ خيلٍ حتَّى أنهكَ حُطامُ النَّهاراتِ جِسمي.

لا تُصدِّق هذه الابتسامة العريضة، ولا تُصدِّق العافية في دأبي كالبِغال على النُّهوض. فطرةُ البِغال أن تَنهَضَ بالحُمولات وفِطرةُ جِسمي أن يَنهضَ، كُلَّ صباحٍ، بأعباء ميتٍ يُشبِهُني. لم أمُت حين أشار أبي إلى المكان البعيد. أمسكتُ يدهُ وهَمَستُ في الأذنُ التي لا تسمعُني: (( قل لي يا أبي ما الذي تراه؟)). لم يقُل شيئاً فظننتُ أنَّهُ يَهتدي. وَغادرتُهُ ولم أنمْ. وغَادرني في نومهِ وما انتبهتُ. على الرغمِ منِّي يأتي الصباحُ ولا أوصِدٌ نافذتي أو أزجُر ضوءه السَّخيف. وفي الليلِ أنامُ علَّني أٌغادرُني ولا أقدِرُ إذ لا أهتدي وتتشبَّثُ بيَ الأنفاسُ المزكومةُ لنائمةٍ بجواري، ويستدرجني الحلمُ إلى يَقظةِ الحالمِ التي لا تُشبه النومَ. إذاً، أسفٌ، لن أرحل، ليس لأنّي لا أريد، بل لأنَّ لديَّ ما أفعله هُنا. لمن أترك الحطام هملاً؟ وقسوةَ أن أقترف الخطأ وأندمُ ثمَّ أندمُ على الخطأ الذي سأقترفُه فيما بعد. لمن أترك حماقة أن أحبَّ الرواق والنافذة؟ حماقةَ أن أغتبطَ إذا دلَّني الظَّلامُ على بَارِقةٍ وأعلمُ أنَّها عوُدُ ثِقابٍ أو عَقْبُ سِيكارة، فيلتصق الظَّلامُ بجلدي ويكتنفُني، لمن أترك غِبطةَ أن أتنفَّس في العتمة التي أحسبُ أنَّها غِشاوة لهاثي الخائف، وغبطة أن أبكي إذا أشفقتُ لِوحدَتي وإذا حَاصَرني الجَمعُ من كلِّ صَوْب.
أَسِفٌ لديَّ مِن البَطالةِ ما يَنوء بثقلهِ جَبَل. ومن الحِيرة، والسؤال، وكراهة النفس. لو أحببت نفسي يوماً لأرغمتها على الرحيل. لو أحببت جسمي لأفنيته في تطلُّب لَمْسِكِ. لكنِّي الآن أجرُّ نَهاري كعربةِ خَيل. وأشقى بأشجانِ الحُوذِيِّ المَخلوعِ. أقِفُ كالظلِّ الحائرِ عند العَتَبة. وأعلمُ أنّي لن أغادر، على الرغم منِّي، يَأتي الصباحُ في كلِّ صَباح. لا أبرح الظِّلَّ الذي يُشبهُني.

لمن أتركُ حماقةَ أن أُحبَّكِ وأحيا؟

لمَن أتركُ غيَابَكِ؟

نص: بسام حجار

زر الذهاب إلى الأعلى