لوسيفر (حَامِلُ النُّور) – ميهاي إيمينِسكو – ترجمة: محمد السعيد

إلى عبير… التي سمّتني كلَّ الرِّفقة.
*المترجم


ذات زمانٍ تغنّى فيه الشعراء بحكايات رفيعة مزدانة، عاشت غادة حسناء، أنجلها الملوك النبلاء. وحيدةَ الأبوَين، نعمةً لذويها، صبيحة الحسن، يكاد الخيال يذوي من بهائها،كأنها أمّ النّجوم الشّوابك، أو مريمُ العذراء بين القدّيسين. في كلّ ظلمةِ سَحَر، تقودها خطواتها عبر أقبية القلعة إلى شرفةٍ يشرق عليها لوسيفر. رنت بصرها إلى أبحر بعيدة لتسترق نظرةً لإصباحه على السفن التائهة في ذلك الخضمّ. تشرّبتْ نورَه حتى أسكرتها الرغبة، أما هو أبصرها في كلّ لياليه المدلهمّة حتى نالتِ القلب. مُسبلةً رأسها ومتكئةً على إطار النافذة، جواها حبٌّ وملأ قلبها حنينٌ دفين. وهو، مشعًّا كالشرارة، أنار بعزمٍ ملتهبٍ جثمان القلعةِ المظلمة العظيمة التي تطلع منها. 


في ليلةٍ ملأى بأشعّته المنثالة، اجتاح خدرَها، كأنما أطبق عليها ضباب فضّي غريب. وقتما ران الكرى في عينيها، أودع يديها على صدرها، وأطبق عينيها الوديعتَين. في مرآتها، انعكست صورتها مشرئبَّةً شعاعًا دافئًا، على نحرها ووجهها الملتفّ. بسمةٌ ارتسمت على شفتَيها، إذ تخلخل نوره الدافق إلى منامها، محتضنًا  روحها. في سَورة النّوم، همست في زفراتها الحرّى: «هلمّ إليّ أيها الحبيب، يا أمير السماوات الحِسان. أدركني أيا لوسيفر البهيّ، يا فتنتي، وأفِض خدري ومهجتي بعذبِ نورِك!»، وأشعّ لوسيفر كالشّمس لما سمع من عذبِ صوتِها ، ثمّ غاص في المحيط كمذنّب. وأينما خفتت شرارته، تموّر البحر وهاج حتى بزغ من العُباب الأزرق شابٌّ صبوح. تنزَّى من على الموجة العبوس، ونفذ إليها بحنانٍ، مُمسكًا صولجانَ معرّشًا. أميرٌ رفيع بشعرٍ من الذّهب، تكسوه عباءة من البنفسجْ. عيناه نجمتان. خدّاه أبيض من الموت. إنه الموتُ لو كان جسدًا. شابٌّ أنجبه اللّيلْ. 


 «أتيتُ من الكواكب البعيدة، وما أهولَ السّفر. أبي قبّةُ العالم، وأمّي المحيط. تركتُ سلطاني لطاعةِ أمانيك، وأنا وليدُ الهوّةِ والسماء، أقفُ أمامكِ، فتعالي إليّ يا نجيبة المحتد، واطرحي عنكِ العالمَ؛ فلوسيفر حطّ على الأرضِ كي تكوني عروسهُ، ولْتعيشي حتى يفنى الزمان في قلاعِ السّماء، ولْتملكي كلّ الأسماك وكلّ طائرٍ يطير.». 

«يا لحسنك يا سيّدي، فأنتَ أميرٌ ملاك. لكن لن أُسلِمكَ القدر. غريبٌ سماع صوتِك ورؤيةُ محيّاك، أنا حيّة ولكنّكَ ميت؛ عيناك جمرتان تملآن روحيَ رعبًا.».


مضى يومٌ فَيَومان، ثمّ أنار لوسيفر القلعةَ الظّلماء بنورِه البرّاق. بثَّ نورَه الفريد في أحلامها، فمزّقَ قلبها بحبٍّ مُوجعٍ وحنينٍ ممضّ.

«هلمّ إليّ أيها الحبيب، يا أمير السماوات الحِسان. أدركني أيا لوسيفر البهيّ، يا فتنتي، وأفِض خدري ومهجتي بعذبِ نورِك!».

حينَ سمِع أنينَها، اختفى مكلومًا، والتمع البرق واهتزم الرّعد، وأمطرت السماء شعاعًا سيّالًا، فنبع من ذلك السّيل وجهُ إنسان. على الرأس خصلات سفعاء، متوَّجةٌ باللّهب، ومن ذلك الهواء المُشمِس، أتى محقَّقًا. ذراعاه رخام، أسفرت عنهما عباءةُ غربان، طَلْعَته حزينة، وحاجباه الشُحوب. عيناه اللّامعتان أوحَتا بغريبِ الوحوش، وفي بؤرتَيهِما المُقمرتَين سِحرُ الغدران المضاءة بالقَمَر.

«أتيتُ من الكواكب البعيدة، وما أهولَ السّفر. أبي توّجَهُ أبولو، وأمّي ابنَةُ اللّيل. تركتُ سلطاني لطاعةِ أمانيك، وأنا وليدُ الهوّةِ والسماء، أقفُ أمامكِ، فتعالي إليّ يا نجيبة المحتد، واطرحي عنكِ العالمَ؛ فلوسيفر حطّ على الأرضِ كي تكوني عروسه. طوقُ النّجوم زينةُ شعرِكِ، وستُشرقِين بين الكواكب فخرًا وعزًّا.».

«يا لحسنكَ يا سيّدي، فأنتَ أميرٌ.. هَلاك. لكن لن أُسلِمكَ القدر. جُرحٌ أنتَ بفظِّ منطوقِك؛ أخافُ مما ظانٌّ أنّك تراه؛ كأنّ عينَيك ممسوستان، إذ تخلُبان روحي.».

«لِمَ نادَيتنِي إليكِ؟ أأنا كاذب؟ فأيّامي أبد وأيّامك لَحَدْ.».

«لساني خبط عشواء وكلامي انتشار، ومع لغتك البشريّة، حديثك غريب. لكن إن أردتَ إثبات ذاتِك وتزوُّجي، فتعالَ إلى الأرض، ولْتُصبح فانٍ».

«ساومتِ حياتي الأبديّة من أجل قبلة، بلى، سأُريكِ حُبّي وعميقَ حنيني. سأتخلّى عن حقّي الطّبيعي وأُولدَ من الخطيئة، أنا الذي أُطارحُ الزّمان، سأفكّ تلك العقدة الكبرى».

فوثَبَ بعيدًا إلى حيث تطفو غيمةٌ من لؤلؤ ليتنازل عن حقّه الطّبيعي  فداءً لفتاةٍ فانية.


قُضِيَ أنّ كاتالين الشابّ، مِرسالَ البيت، بهلوانٌ يملأ الكؤوس ويُدير الرؤوس في المآدب والمُصاخبات؛ مرسالًا يحملُ طرفَ رداء المَلِكَة، ذا نسبٍ وضيع، قويَّ الشّزَر، أحمرَ الوجنتَين حُمرةَ الرّمان، لَعوبًا، بارِقَ العينَين، حثيثَ الخطو خفيفَه بجانب كاتالينا. أيا عروسَ الحبّ، أليس حُلوًا؟ فلتمضِ يا كاتالين ولْترمِ سهمَك، لعلّه لا يطِيشْ. وإذ به طوّق خصرَها وربط يدَيه لكسب ودّها.

«إليكَ عنّي يا خائب، فما أنتَ صانع؟»

«إنّ روحَ الحزن ترفرف على قسماتكِ، ظننتُ أن أهدِّئ روع قلبِك، لكن أكرميني بالالتفات والابتسام وتقبيل خادمك ولو مرّةً.. مرّة!».

«لا أعلمُ نواياك، فاغرب عنّي أيها الصّفيق. يا للبؤس! إن تلهّفي لتلك النجمة هو قبري»

«إن لم تعرفي، ستتعلمين كيف يبسطُ الحبّ راحتَيه، لا تشيحي بوجهك عن تعاليمي، فلتصغي إليّ ولتهتدي. كما يلقي الصيّاد شبكتَه التي تقلقُ الطيورُ راحتَها، حينما أحيطكِ بذراعي، كوني لباسًا لي. عيناكِ تلتمعان في صحوِ عينيّ، لا بعيدتان ولا قريبتان، وحينما أرفع خصرَكِ بحنان، أعلِي كاحلَيكِ. عندما أُدني وجهي، أعلِي وجهَكِ، فنغرق في نظرات متلهّفةٍ عذبةٍ أمدَ الدهر. ولمعرفة نعماء الحبّ، عند التظاء شفاهنا، أقبلِي ونوّليني.»


مشدوهةً خجلى لما قاله الشاب، احمرّت وجنتاها وأشاحتْ عينَيها راغبِةً راهِبة.

«مهذارًا ثرثارًا منذ صغرِكَ، إلا أنني شعرتُ بنغمٍ بيننا»

لكنّ شُعلةَ لوسيفر البطيئة المُبحرة برقَتْ من البحر على الأفق. آهٍ يا أمير الأبدية.

وهنا قلبي التَّعِس ينزف دمًا، وبالدمع الهتون تخيبُ مقلتاي حين أرى فَلَكَ البحر يصبو إليه، مشعًّا بحنان، غاشيًا حزني، سابحًا في العلياء حيث لا بشرْ. أشعّته الرمادية المنثالة تخرِقُ الأكوان ولا فضاء يُثنيها! أحبّه إلى أنْ أموتَ لكن يا لِبعده فلا يدَ تصِله. يا لصحراءِ أيّامي وطولِ ليلي!

«يا لطيفةَ المنطوق. هيّا! هيّا، فلنهربْ، وندعَ العالم يضيعُ خلفنا ولا يهتدون. ولا نندم على ما فات، بل نعيشُ ربيعَ أيّامنا، فتنسين والدَيك ومُناكِ وحُنوَّ الأحلام».

هبَّ لوسيفر، وفَرَدَ جناحَيه غطاءً للسماء، وطوى مليون سنةٍ في لحظة. سماءُ نجومٍ تعلوه، سماءُ نجومٍ تدنوه، وهو يخبطُ تائهًا كسيلٍ من البرق. وإذ به يدرك وراءَ أستار الليل البهيم ينبوعًا من النور، سابحًا فيما يشبه ليلَ العدمِ الأخير نحو الخواءِ، مدفوعًا بحنين مهجته.


لم يصل إلى مرامِه ولا إلى نظرِ عينَيه بعد؛ إلى ذلك المكان حيث نُزع الزمان قسرًا من الأبدية. فلا شيء حوله، ولكن يمضّه حنينٌ غريب، حنينٌ لا أبد له ولا أمد، عميقٌ كهوّةٍ عمياء.

«أبتاه ربّي، حرّرني من أمانتي السماويّة، تباركتْ سماؤك وأرضك. ما تطلبُه منّي موفّى، هبْني قدرًا جديدًا، فأنت للحياة المَعين، وللموتِ الهامدِ الوِرد. فلتسلبني ملائكيّتي وقدسيّتي، ولتُنظرني عوضَهما ساعةً من الحبّ البشريّ. من رحِم الفوضى خرجتُ وإليها أعود، ومن الظلمةِ البهيمة وُلدتُ وإليها القرار.»

«هيبيريون، يا بنيّ المقدّس، لا ترمي بحقّك، ولا تنتظر المعجزات والإشارات التي لا اسم لها ولا منطق. تتمنّى أن تصير إنسانًا وتعيش. لكنّ البشر في لحظة يموتون، وكلّ يومٍ يولدون. يبنون على الرّيح أفكارًا عمياء خاوية؛ هم كالموجِ يُمدَّون إلى القبور ويخلفهم موجٌ جديد. حتّم عليهم القدر، يا نجميَ الرّفيع، حبَّ المال، أما نحنُ لا نعي زمانًا ولا مكانًا ولا موتًا.»


«منذ الأزل وإلى الأبد، وراء كلّ شمسٍ شمسٌ جديدة. فالحياةُ والموتُ سيّان، كلاهما يُعطيان معنىً للآخر.»

«لكنّك يا هيبيريون لا تتقهقر، يا معجزة معجزات اللّيل. السماءُ بيتُك، يا لغز الزمان. ما الخيال الذي يسكنُك، ما الحلم الذي يؤنّبك؟ امضِ إلى الأرض، فتجد ما تُمنِّيه.»

فانطلقَ هيبيريون إلى اللّيل الذي طالما أشرق عليه وأنار. أدرك المساء حينما تجثي دُكنةُ اللّيل ويقبل القمر بنوره البارد، النورِ الذي يُرعشُ الماء ويملأ أغباش الغابات بشفيفِ الضوء، حيثما تشاركا حبيبان وحدتَيهما تحت الشّجر.

«آه. لتُعطِني حبًّا، أغفو به على صدرِ الحبيب في سحرِ عينَيه غفوةَ نعيمٍ وعبير. يغطيّنا نور اللهفة والفتنة، وأفِض روحي بعذوبة اللّيل في زمانٍ رقيق أبديّ. آه. فلتُبِد وحشتي ولوعتي، فلأنتَ أوّل الحب ولآخر الأماني.»


تطلّع هيبيريون إليهما وعرفَ ذلك اللّهيب الذي حرّق روحَيهما، ودنى الصبيّ منها فطوّقته لصدرها. تطايرت بِرِقّةٍ بتلاتٌ في الهواء، شابّان جميلان محمومان بخصلاتِ ذهب. هي تاهت في فكرِها ورنت إلى السماء، فأبصرت نور لوسيفر، وزفرت:

«أدركني أيا لوسيفر البهيّ، يا فتنتي، وأفِض خدري ومهجتي بعذبِ نورِك!»

ولوسيفر، وحيدًا في الفضاء، سمع تلك الزفرات التي زلزت كوكبًا مطلًّا على البحر، لكنه ليس كذي قبل، فنحَبَ ملء القلب:

«ما همّكِ، يا ابنةَ الطين، إن كنتُ أو كان؟ فالأرض هي الأرض، والحظّ يدركُ من يريد. أما أنا سأسودُ في سلطاني.. جامدًا ميّتًا».


*شاعر رومانيا الأكبر: ميهاي إيمينِسكو

*ترجمها عن الإنجليزية: محمد السعيد

*مراجعة وتدقيق: موزة العبدولي


المصادر:

https://www.gabrielditu.com/eminescu/lucifer.asp
https://allpoetry.com/Evening-Star-_AKA-Lucifer

زر الذهاب إلى الأعلى