يانيس ريتسوس – إيماءات – ترجمة: سعدي يوسف

*بعدَ المطرْ‏

ظلّت تمطر أياماً. وكل ما أراد أحدهم أن يخبرَ به الآخر،
بعد أن جرى تمحيصهُ بعناية-‏
تأجلَ.‏
وانطوى.‏
وحُمل بعيداً في حقائبهم.‏
لقد غادروا.‏
الآن، تتمشى حلازينُ كبيرةٌ على رخام الباحة،‏
حاملةً على ظهورها أبراجاً صغيرةً ونواقيسَ،
إنها تتسلّق الأقحوانَ،
إنها تدخل برودةً متأنيةً.‏
توقفت هيلين لتنظر، وغمغمتْ،
‏((ترى، هل الحلازينُ سعيدةٌ؟.))‏
كان الآخرون صامتين.‏
جرجرَ السؤالُ نفسَهُ بوثوقِ هاديء.‏
تاركاً خلفهُ خيطَ فضةِ رطباً.‏

* * **


*شَيء لمْ يُنجز
غيوم على الجبل.‏
من الملوم؟ما الملوم؟
صامتاً، متعباً، ينظر أمامه
يستدير، ينحني
الصخور في الأسفل،
والطيور في الأعلى
جرّة في النافذة
ونباتاتٌ شوكيةٌ في الوادي.‏
يداه في الجيب.‏
ذرائع، ذرائع.القصيدة تتأخر.فارغ.‏
الكلمة يدل عليها ما تخفي

* * * *

*يَأس بِينلوب
لم يكن السبب أنها لم تعرفه
في ضوء النهار الكابي،
وهو متنكرٌ بأسمالِ الشحاذِ.‏
لا…‏
كانت ثمة علائمٌ جليّهٌ:‏
الندبةُ على صابونة الركبة‏
الجسدُ المفتولُ‏
النظرةُ الماكرةُ‏
كانت خائفةً
تميل، لائذةً بالجدار.‏
لقد حاولتْ أن تجد لها عذراً ما
أن تجدَ تأخيراً تتفادى به الإجابةَ‏
كي لا تفضحَ أفكارها.‏
أمن أجله أضاعت عشرين عاماً
منتظرةً
حالمةً؟
أمن أجل هذا الغريبِ الرثِّ‏
الملطخِ دماً‏
المبيضّ اللحية؟‏
سقطتْ. فاقدةً الكلامَ على كرسي.‏
حدقتْ في العشاق المذبوحين على أرضية القاعة‏
كما لو كانت تحدّق في رغباتها الميتةِ.‏
وقالت:أهلاً…‏
كانت تحسّ بصوتها قادماً من البعيد
وكأنه صوتُ سواها.‏
النَّولُ في الزاوية‏
يُسقط ظلالاً على السقف، كالقفص.‏
والطيورُ التي نسجها بخيوطٍ حمرٍ برّاقةٍ
بين أوراقٍ خضرٍ،
استحالت، بغتةً، رماديةًو سوداءَ‏
تطيُر منخفضةً على السماءِ المسطحةِ لمحنتها النهائية.‏

* * * *

*إِهمَال

يقول:هكذا تألفُ كلَّ شيء.‏
حتى الشيُء الذي أدهشنا، يوماً‏
هو الآنَ مبتذلٌ بائخٌ.‏
ليست الأشياء، وحدها، التي تبهتُ‏
وإنما عيوننا تبهت أيضا-‏
إنها الآن تُشيحُ عن الزجاج الملون‏
عن الأضواءِ الاصطناعية الحادة-‏
إنها الآن تفضّلُ الممرّاتِ المعتّمَة
أو الأنفاقَ التي لا تتمايز-‏
إن تماثُلَها هو كالزمن.‏
وأنت لن تفاجأ إذا هطلَ المطرُ فجراً،
أو دقّت ساعة المدينةِ الثانيةَ عشرةَ ظهراً،
أو أن الساعاتِ التي تنتصبُ خارجةً، لا مباليةً،
وحيدةً، كشيفة في العراءِ- لا تبتلّ.‏
امرأةٌ مجهولةٌ تتجوّلُ حول المنزل،
شعثاءَ الشعرِ‏
ترتدي جواربَ نايلون مهملةً‏
تنحدر على سَاقيها.‏

* * * *
*منَ الذَّاكِرة

أشعةُ إكس قديمة لرجال مسلولين.‏
في مظاريف صفرٍ كبيرةٍ بأعلى خزانةِ الملابسِ،
‏ مليئة بالغبار_‏
ليلة بعد ليلة حين يصفر القطارُ في الضواحي،
ليال بحوامل شموع طوال،
على الأرض تنتثر مربعاتُ ورقٍ صغيرة‏
كانت تضمُّ مسحوقَ مداواة ِالسعالِ-‏
حين انسكبَ القدحُ على الملاءاتِ، مدَّ ساقيه خارجاً-‏
كانت ركبتاه هزيلتين ،وكان الشعرُ جافاً-‏
‏ كان لديه انتصابٌ-‏
طرقٌ على الباب‏
طرقٌ شديدٌ.‏
غطيناه بسرعة، وركضنا نحو الممر،
وقفنا خلف الباب ،وأنصتنا:‏
لم يطرقوا ثانيةً.‏

* * * *

قصائد لـ: يَانيس ريتْسوس
‏ من مجموعاته الشعرية : (أحجار،إعادات، إيماءات) ‏
ترجمة: سعدي يوسف ‏
والصادرة عن: دار المدى للثقافة والنشر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى