في باب المعرفة المطلقة. ولا معرفة. قد يكون ما أعنيه في باب الشعر. وهذا لا يؤخذ بعلم ولا بشيء.
لا تعرفين من أفكار جسدي إلَّا قليلَ نثرها وشعرها، ومن أوجاع بيوتي إلَّا وعودَ جمرها، ومن أرضي إلا توجّسَ البراكين. وهذه مدعاةٌ لعتمة. تعرفين فقط أني غيومكِ لأنَّكِ تدرسين الجبال والأنهر وغيبوبة الأودية. وهذه طبعاً لا تكفي. ومن نظرةٍ أولى على غرار من وصمتهم صواعقُ النوم. وبلا سببٍ علميّ لأني وأنتِ لعنتا آلهة. وتعرفين أني الشاعر المرئي وغير المرئي وأني بما يكفي لأطالب الكلمات بصرخات الجنين. وتعرفين أني لستُ نبياً وإنما أسبق حلكةَ يديّ لأقودهما إليكِ. ولستُ صانع غابات لكنّي أرفع روح النباتات إلى لهاثها. ولستُ مديحاً لحرية وإنما أفتح الحدود على هواجس الجغرافيا. وهذه كلها تجعلني عصفوراً ولا سماء، وشجرة سرو ولا هواء، وهاويةً للوقوع ولا قعر. تعرفين أني أحبكِ وغداً. وهذا طبعاً لا يكفي، وإذا كنتُ أسفح أحداً فأقداري لأنَّها مكتوبة. وإذا كنتُ أسفحها فلأنتقم لماضيَّ وحياتي، لأنكِ لم تكوني. وهذه طبعاً لا تكفي.
تعرفين فقط أني أرى من شدة ما أراكِ، وأنمو من فرط نموكِ فيَّ، وأتكلم صحيح اللغات من فرط إصحاحكِ وصحيح لغاتكِ. وتعرفين أنكِ تجوّعين نمور غاباتي. وهذه طبعاً لا تكفي.
لكنكِ لا تعرفين أني مصاب وأن الأقواس النشَّابة جمعتني فصرتُ لا سهولاً من قمح لكن سهولاً من سهامك علي.
لا تعرفين مثلاً أن إصابتي عميقة وأن أنصالكِ تخترق، وأن شفاء منها لن يكون ممكناً خلال هذه الحياة، وإن بمعجزة. لا تعرفين أني أريد هذه الإصابة مثلما أريد طفولتي، وأني أطالب بها مثلما أطالب بحياتي قبل الولادة.
أنتِ لا تعرفين مثلاً أن عودتي إليَّ مستحيلةً لأن لا طريق بعد الآن إلى شخص كان أنا في أحد الأيام.
لا تعرفين مثلاً أن مياهك مُسمَّمة. أقول وأعني مياهاً أشربها فوَّارة من أعمق آبار فتنتكِ. ومياهاً تتحدر من شاهق مرور شتائكِ فوق الجبال. أذكر المياه وأعني أن سمومكِ قد لقَّحت غرائزي وغيّرت دمي وأهلكت صنوف الموت السلبي في لغتي، وأنّها بلغت مني مبلغ الموت وأنا على قيد الحياة.
أنتِ لا تعرفين مثلاً أن الهواء… وأن عينيّ وأن يديّ وأن قوايَ الحية وأن النوم وأن الفجر وأن الظهيرة وأن الدغشة وأن منتصف الليل وأن الأفق وأن جروحي وأن الموسيقى وأن الطبيعة وأن الفن وأن أحفادي وأولادي وأن مرور الأفكار في الغيم وأننا جميعنا مصابون بكِ.
أنت لا تعرفين مثلاً أن غداً مُسمَّمٌ بكِ. لا غدي فقط لكن غدَ يومِ غدٍ أيضاً ومثلاً وبالطبع.
أنتِ لا تعرفين إلا القليل. وهذا صحيح تماماً ومدعاةٌ لعتمة.
تريدين أن تعرفي المزيد، وأيضاً؟
خذي عدد الأنفاس وعدد نبضات القلب وخذي أعمار موتي الإيجابي في النهار وأعمارها في الليل وأعمارها عندما أغضب وأعمارها عندما أغتبط وأعمارها عندما أحلم وأعمارها عند الكوابيس وأعمارها عندما أكتب وأعمارها عندما أكتم وأعمارها عندما أجيء وأعمارها عندما أسلّم الروح وأسرّح القَتيل.
أنتِ لا تعرفين إلا القليل القليل وهذا صحيح تماماً وضروريّ تماماً ولا بُدّ.
أنتِ لا تعرفين أنّه أجمل للحبّ أن لا تعرفي لكنكِ تفتحين القفص أمام الغابة وتبدأين المعرفة.
عزاؤكِ أنكِ ستعرفين، وانتقامُ الشعر أنكِ لن تعرفي.
*نص: عقل العويط
*من ديوان: إنجيل شخصي