أحسُّ أني خسرتُ عُمري كلَّه، كان عليَّ أن أعرف أقلّ بكثيرٍ من خبرة السبعة والعشرين عاماً، لعلّ السبب يَكمُن في أنَّ حياتي لم تكن مُضيئة، فالحبُّ، وزواجي المُضحك في السادسة عشرة زلزلا أركان حياتي. على الدوام لم يَكُن لي مرشد، لم يربّني أحدٌ فكرياً وروحياً. كلُّ ما لدي هو مني، وكلُّ ما لم أحصل عليه كان بمقدوري امتلاكه؛ لولا انحرافي وعدم معرفتي لنفسي. عراقيل الحياة مَنعتني من الوصول.. أريد أن أُبدأ…
سيئاتي لم تكن لسوءٍ في صميمي، لكن بسبب إحساسي اللامتناهي بعمِل الخَير…
أشعرُ تحت جِلدي بانقباضٍ وغَثَيان.. أريدُ تَمزيق كلَّ شيءٍ.. أُريد أن أتقوقعَ في ذَاتي ما أمكنني. أريدُ الانطواء في أعماق الأرض، فهناك حُبّي، هُناك عندما تخضر البذور وتتواشج الجذور يَلتقي التفسّخ والانبعاث، وجود ما قبل الولادة وما بعد الولادة، كأنَّما جَسدي شكلٌ مؤقتٌ سرعان ما سيزول. أريدُ الوصول إلى الأصل، أرغب في تعليق قلبي على الأغصان مثل فاكهةٍ طازجةٍ…
سعيتُ دائماً لأكون بوابة موصدة لئلا يَطّلع أحدٌ على حياتي الباطنيَّة الموحشة، لئلا يعرف أحد حياتي… سعيت إلى أن أكون آدمية.. ولكن كان في داخلي على الدوام كائنٌ حيٌ..
قد ندحرج إحساسنا بأقدامنا.. لكننا لا نستطيع أن نرفضه أبداً.
لا أعرف الوصول.. لكني أعتقد أن هناك هدفاً ولابدّ، هدفٌ ينسابُ من وجودي كلّه إليه، آهٍ.. لو أموت وأُبعث ثانيةً لأرى الدنيا شكلاً آخر.
العالم ليس ظلماً بكليّتهِ، والناس، الناس المتعبون ينسون أنفسهم دائماً فلا يسيج أحدٌ منهم بيته.
الإدمان على عادات الحياة المُضحكة، والإذعان للمحدوديَّة والعوائق، كلّها أعمال مخالفة للطبيعة.
إن حرماناتي، وإن تكنْ قد منحتني الحزن، فهي على العكس من ذلك أيضاً أعطتني هذه الميزة: لقد أنجتني من فخاخ التهتّك المخادع في العلاقات المُحتملة. فالحرمانات تقرّب العلاقة إلى مركز الاضطرابات والتحوُّلات الأصلية.
لا أريد أن أشبع، أريد الوصول إلى فضيلة الشبع.
****
سيئاتي…؟ أية سيئات لي سوى خجلي وعجز حسناتي عن الإفصاح، سوى أنين حسناتي الأسيرة في هذه الدنيا المليئة بالجدران على مدِّ البصر، جدار تلو جدار، التقشف بالشمس، وقحط الفرص، والخوف والاختناق والاحتقار…
بالأمس، في الغرفة اللصيقة بغرفتي (في الفندق) انتحرت امرأة، قُبيل الصبح انفجر صوت صراخ ظننته عواء كلب، خرجتُ لأستمع، الآخرون خرجوا أيضاً…. وأخيراً كسروا الباب.. كانت المرأة قد أصبحت رمادية، كانت قبيحة قصيرة، فقيرة، ترقد على سريرها فاقدة وعيها.
يبدو أنها قد ضُربت أولاً، وقام ضاربوها بسحبها من الطابق الرابع إلى الطابق الأول. كانت قبل انتحارها ميتة تقريباً، والآن ماتت تماماً. من حقيبتها المفتوحة وسط الغرفة ومن بين ثيابها تبرز أشياء مضحكة، وعجيبة: حمالات صدر لا عدد لها، ألبسة داخلية قذرة، جوارب ممزقة، أوراق ملونة ودمى ملفوفة بالأوراق الملونة، كتب قصصية للأطفال، أقراص مختلفة، صورة المسيح وعين اصطناعية.
لا أعرف، لقد جاء هذا الموت بلا شفقة. تمنيت أن أذهب وراءها إلى المستشفى. لكني أمام كل الناس الذين تعاملوا مع جسدها الرمادي بهذا القدر من الفظاظة، لم أتجرأ على إظهار رأفتي ومواساتي نحوها…
سعيدة أنا، لأنَّ شعري صار أبيض، وجبيني تغضّن، وانعقدت بين حاجبي تجعيدتان كبيرتان رَسَختا على بشرتي. سعادتي أنّي لم أعد حالمة. قريباً سأبلغ الثانية والثلاثين، صحيح أن الـ(32) عاماً هي حياتي التي تركتها خلفي وأتممتها. لكن ما يشفع لي أنني وجدت فيها نفسي.
فمي مُضطرب، وقلبي منقبض. تعبت من كوني متفرّجة. ما إن أعود إلى البيت وأتوحد مع نفسي أحس أني قضيت يومي كله بالتشرد والضياع بين أشياء ليست مني، أشياء زائلة.
*نص: فروغ فرخزاد
*ترجمة: ناطق عزيز وأحمد عبد الحسين