أخذتكِ المُرتفعات – عبدالله حمدان الناصر

كان صوتكِ يضع حدوداً لليل.

كنتِ تضعين الصمتَ في مكانه وتمنعينه من امتلاك العيون.
كان كل شيء في الكون في مكانه الطبيعي حين كنتِ تتحدثين. لكنّ مخلباً شفيفاً للنوم بات يأخذكِ مؤخراً لتنامي كل ليلةٍ في المرتفعات. ثم مستغلاً غيابكِ يقتلنا الليلُ.

كان صوتكِ فرصةً أخيرة للخروج من كل شيء. لكنكِ ملتِ إلى الدعة والظلال.
كان صوتكِ فرصةً لظهور الطريق وانحسار الفراغ. كان صوتكِ أمل الوردة وروح العطر. لكنكِ هكذا تحبين البرق والفكرة العابرة أكثر من الناس والأمطار، وتمنحين هالة صوتكِ للجبل كي يواصل اليأس والارتفاع.

كان صوتكِ خميرةً يجهل أصلها الخبازون وصانعو الخمور. كان يمر مخابز المدينة كلها في لحظةٍ واحدة ليصلح العجين، ويشعل شمعةً في قبو العناصر والاحتمالات.

كان صوتكِ غسّالةً هائلةً بلا صوت. يغسل ملابس الغرباء الذين يمرون بكِ، ويجفف ملابس الأولاد الذين ينتظرون قمصانهم الوحيدة ليذهبوا إلى السأم والأصدقاء.


كان صوتكِ هواءً مشمساً يهزّ حبال الغسيل في المدن المصابة بالقمل. كان يداً قوية تنظف الأرض من التبغ الرديء ومن الأثرياء.
كان يداً تلعب مع القطط التي تشعر بالملل من نومها الأرضي الطويل، وماءً قاطعاً يزيل القذى من العيون والحمائم من الشبابيك.

كان صوتكِ الماءَ الذي يعالج فساد الأنهار.

أنتِ لا تدركين أن الطبيعة تتكئ عليكِ.

أن العشب لا يظهر بسبب الغيم بل حين تخرج من فمكِ (الشين). أن الظلَّ لا يمتدّ بسبب انكفاء الشمس بل بفعل (الراء) التي تسقط مراراً منكِ دون اهتمام.
وحين تطيرين مع الجبل لا تقولين كيف يزيل الناس أثر (الجيم) التي خرجت منك والتصقتْ بالهواء؟ لا تشرحين كيف خرجت الإنسانية من (السين) التي انسربت من ثناياكِ وأنتِ تتحدثين بكل هذا العدم وكل هذا الهراء؟

لا تدركين أيتها الغافلة أن الطبيعة تحتاج صوتكِ لتكون.

تقولين إنكِ متعبة من الاستواء وتحتاجين إلى الأنقاض. إنكِ بحاجة إلى الكنبة أكثر من الكلام. إلى حضن شخص ليس له وجه ولا مستقبل ولا يدان.
وأقولُ صوتكِ حضنُ نفسه. فكيف يحتاج الحضن إلى حضن؟ ولماذا ترتاح جراحكِ في المخالب والمرتفعات؟

أنتِ لا تدركين أن الطبيعة تتكيء عليكِ.

وتجهلين أنكِ حين تضعين باستمرارٍ حاجزاً هشاً مثل (أظن) وسط كلامكِ، ينهال علينا اليقين.

أيتها المتعبة الهاربة من الكلام الضئيل .. كان الهدوء الممطوط الذي يبلل(الميم) في كلامكِ ما ينقص الكون ليرتاح من كل هذا الكلام.


*نص: عبدالله حمدان الناصر

زر الذهاب إلى الأعلى