الطائر
منـذُ أعوامٍ بـعـيـدةٍ مَـضـت، كـان طـائـر يأتي إلى قريتنـا كـلّ مساء، بعد غروب الشمس. يتخذ له مكاناً على شجرة، ثم ما أن تحل العتمة، حتى يبدأ في الحديث والصداح. لم يكـن أحدٌ مـن سكان القرية يـفـهـم مـاذا يريـد الطـائر؟ وهـو -أي الطائر- لم يكـن مطالباً الأشياء والكائنات فهـم مـا يـقـول. يبدو أنَّـه كـان يـُكـرر كلامه كلَّ يوم. كان في صداحه بعض من الحزن، الحزن الذي كان يوحي بنذير …. كنَّا سكان القرية نطرد ذلك النذير إلى عتمات بعيدة تسكن أعماقنا، الطير مثلما كان محل استغرابنا، كان أيضاً محل خوفنا المُرتقب، من أن سوءاً ما سيحدث دون ريب. ذات فجر تحت الشجرة تلك، وجدنا امرأة مشنوقة، امرأة لم نُبصرهـا مـن قبـل، منذ ذلك الفجر، اختفى الطائر، ولم يعد إلى قريتنا ثانيةً.
طفلتي
كنتُ أحاول منع طفلتي، مـن اللعب في الأماكن المُظلمة، لكنَّها لم تكن تستمع إليّ … توجهتُ إليها غاضباً، لأجدها وقد تحولتُ إلى عصفورٍ صغیرٍ جمیل، دهسته تحت قدمي بقوةٍ ووضعته في كيس، أخذتـه معي موقنـاً أنَّـنـي عاقبـتُ طـفـلـتـي علـى عـدم سماعها نصائحي، عندما هممتُ بالرحيل، قطع عليّ الطريق رجلٌ في الظلام، سحب منّي الكيس ورماه على الأرض، جلـس يـدوس عليـه بقوة، وهـو يطلـق صـرخات متعـة ونـشـوةٍ، أشفقتُ على العصفور منه، التقطتُ الكيس من الأرض، فجأة ظهـر ستة رجال آخـريـن فـهـربـتُ بـالكيس متجهاً إلى المنزل، قـال الـرجـل: أنـا أجـدُ متعةً في دهسِ الأطفال والعصافير، لكنَّني كنتُ أعتقد أنني نجوتُ بالعصفور، وتساءلتُ ماذا سأقول لأم الطفلة وأنا أسلّمها ابنتها في هذا الكيس المليء بالـدم! قررتُ النظر إلى الكيس، وبينما أحاول فتحه، قذف العصفور من أعماقه دماً بقوَّة، أيقنتُ أن حالته خطـرة، أغلقـتُ الـكـيس عليـه ثانيـة. عنـدما وصلتُ إلى المنـزل وفتحت باب البيت وجدتُ طفلتي أول مـن يستقبلني، ويسألني عن الدم، الذي يملأ ملابسي، قررتُ أن أهرع إلى السطوح لأغيّر ملابسي، وأفتحُ الكيس كيما يطير العصفور في السماء.
العدم سيد الصحراء
كانوا عُراة يسيرون فرادى وجماعات في صحراء السّياط تلهبُ ظهورهم الدامية، لم أكن قادراً على تبينهـا، لكـن أصواتها وهي تجلد ظهورهم كانـت تـصل سمعي بقوَّة، وكانت النسوة في الجبال المُحيطة يولولن، فقط عيون الأطفال كانت تُحدّق في فراغ مُعتم، وهي تتبع خُطاهم في الرمال.. ها قد اقتربـوا مـن شجرة خضراء فهـرعـوا جرياً إليها، والسياط تتلاحـق علـى ظهـورهم العارية المُمزَّقة. عندما وصلوا كان هُناك نبع ماء يسقي الشجرة، اندلعت منـه جنـيَّـة وقالـت: لستُ هنـا لأمنعكم عـن المياه، هيـا اغسلوا ظهوركم مـن الـدماء واشـربـوا، ثـمَّ وأنتم تـرحـلـون اذهبوا ..حبوا على أطرافكم حتى لا تلامس السياط ظهوركم ثانية، فتضرب في الفراغ واصلوا طريقهم حبواً لكنَّ السياط أدركتهم، فانهالتْ على ظهورهم ثانية حتّى وجدوا شجرة خضراء أخـرى تـشـرب مـن نبع اندلعتْ منه جنيَّة، قالت: ازحفوا على بطونكم حتى لا تصل السياط ظهوركم، واصـلوا طريقهم زحفاً على بطونهم وما إن اقتربـوا مـن مـشارف المدينة حتى حاولوا القيـام لـدخولها، لكـن بطـونهم كانـت قـد التصقتْ بـالتراب، ولم يعـد ثمـَّة مـن طـريـقٍ لانتزاع أجسادهم، مكثوا ملتصقين بالتراب حتَّى. جاءت الـريـح حاملة تراباً كثيفاً، غطـَّت بـه أجسادهم، فانطفأ ذكرهم ولم يعد لـهـم أثر منـذ ذاك. في الجبـال كـفَّـت النساء عـن الـنـواح، عيـون الأطفال بقيت تحدق في الفراغ، أدركتُ أنَّ العدم سيّد الصحراء.
عابدة القرية
كانت ليلة داكنـة الظـلام، عندما ماتـت تـلـكَ المرأة الصامتة العابدة، عاشت سنوات عمرها وحيدة دون ذريَّة، من تلك الأسر الدينية العريقة، التي دوماً كتقليدٍ تختار من بناتها أكثرهن ذكاءً لتدفع بها في نهج التعبد والتصوف. شاعرها المُفضّل كان أبو مسلم البهلاني، والقصيدة التي تحب قراءتها لنا عن ظهر غيب كانت ميميتـُهُ: معاهد تذكاري سقتك الغمائم. من السلالة الدينية تلك التي انحدرت منها، لم يبـق إلاهـا، دومـاً كـانـت تُبحـلـق إلى الوراء إلى الماضي، إذ الحاضـر والمستقبل مخلوقان منه ولا وجود لهما دونه. عامها الأخير ابتدأ ملاك في زيارتهـا كـلَّ يـوم، يبتسم لها ويمضي، كانت تحاول الإمساك به والحديث معه، لكنها عندما تهم بذلك كان يبتسم ويمضي ….
كانت تحاول أن تقـول لـه خـذني معكَ إلى العالم الـذي تأتي منه، هناك أحبتي وبيتي ونخلي، بعدها انقطع الملاك عن زيارتها فبدأتْ تذوى، أدركنا إذ ذاك أنَّها راحلة عنَّا قريباً لا ريب. عندما هاجر ابن أخيها إلى السواحل بإفريقيا طلبتْ منه أن يتأخر قليلاً، كي يدفنها ثمَّ يرحل لكنَّه رحلَ لتموت بعد رحيلهِ بأيامٍ. كانت ليلة داكنة الظلام، لم تحتج النسوة لإشعال قنديل غرفتها لخياطة كَفَنِهـا، كان ثمَّـة وهـج نـورانيّ، يـشـعُّ مـن وجهها يغمر بالضوء عَتمة المكان.
*نص: سماء عيسى
*من كتاب: أبواب أغلقتها الريح