صار ضرورياً أن أقول لكِ:
إنَّ لكِ ابنًا، يا أمي
يُشبهني في تفاصيلهِ.
يبدأ صباحاته بالنظر إلى عينيكِ
دون أن يقبِّل رأسكِ.
اغفري لهُ نومهُ البارحة عارياً حين فكَّر في طريقةٍ ما، لإيقاف تبوُّله اللاإرادي في المنام. اغفري له مسَّ طهارتك بألبسة نسائه الداخلية التي تجمعينها من أسفل سريره. جُرأته على تحدي عميق إيمانكِ بجُمَلٍ سريعة ومقتضبة ونافرة. سخريته من فكرتك “البسيطة جدًا” عن الحب، وادعاؤه الكاذبُ فهماً أكثر تعقيداً لما يحدث. جبروتُهُ على قلبكِ الذي يبكي مطوَّلاً أمام التلفاز.
ابنكِ الذي يشبهني، يا أمي.. كبر.
نزع عن معصمهِ خيطَ كربلائكِ الأخضر الحزين. لم يعد يؤمنُ بالحسينِ الذي يزهو كنغمةٍ في هاتفك النَّقال، ولا بالحكايا التي تُصدقينها لأنها تشبهكِ. فقدتُ إيماني بكلِّ شيء تُصدقينه، يا أمي، منذُ إيمانكِ بي.
اغفري لي عشر سنوات في أحضان غيركِ، سؤالي المُتكرر عن حال قلبكِ، كأنِّي لا أعرف. نَبرتي الزائفة وأنا أخبركِ:
“لا شيء يستحق.”
اغفري بطشَ أسئلتي
عجزي عن لزوم بيت طاعتكِ
أن أكون ابنكِ المثالي، كما تخبرين نساء الحيّ
جئتُ متأخراً قليلاً، بعد أن صار غيابي ذريعةً لزواجٍ ثانٍ لأبي الذي كان يبحث فيَّ عن ولدٍ ثانٍ، ليصفعهُ بعد أن تهدَّم وجهُ ابنه البكر. متأخراً دقائق فقط وكانت كفيلة بعجزي، وقوفي دون قدرةٍ على إنقاذ ما تبقى منكِ تحت ركامكِ، تكوّمكِ الثَّقيل.
ابنكِ “الوسيم”، يا أمي، لم يعد يُصدِّق مرآة انهزامكِ أمامه. لا أحد يُصدِّقه. صعَّبتُ عليكِ مُهمَّة إقناعهم. أرهقتُ كاهلكِ بالدِّفاع عني، وتَشذيبي. اغفري لي عَبَثي بحائط ذكرياتكِ الهَرِمِ.
ابنكِ، يا أمي..
ليس نبياً
لأوَّل مرة..
وصادم
أرغمكِ على حُبِّهِ طيلة سبعة وعشرين عاماً.
اغفري لي.. قَتلي بدافع الثأر لإحيائكِ بدافع الشَّفقة. مَحوي بدافع الحبّ لرسمكِ بدافع التسلية. اغفري رأسي الثقيل المُتعب على خاصرتكِ المُجرَّحة. هَرَبي الدائم. لوني الأحمر الذي استعرتُه من والدي طفلاً وشحوبي الذي استعرتُه منكِ آخر العمر. هرس رأسكِ الأبيض.. بنقاطِ تناقضي السوداء.
كم أودُّ، يا أمي إنهاء خيط سنيني الذي تُعلِّقينه على صَدركِ. أن أُسقِط لحظاتي في حضنكِ.
اغفري لي.. خياري الأول في أن أكون ولداً، وخياري الأخير في أن أصير شاعراً، ليس أقل ولا أكثر. احتمائي بكِ من القصص المُرعبة كلّها التي تسردينها، انزعاجي الدائم من قُدرتكِ الدائمة على الوَدَاعة، وترتيب البيت بأناقة ربَّة منزلٍ بارعة، وعجزكِ عن ترتيبنا كأبناء طبيعيين.
صار ضرورياً أن أقول لكِ
إنَّ ابنكِ، يا أمي
رکلَ صحن نذركِ الأخير
بال وراء الأبواب كلّها التي كنتِ تَفتحينَها أمامه
ولازال يعرجُ
منذ عراكه آخر مرَّة
لم تنجح عرَّافات الحيّ كلهن
في فَكِّ حجاب عزلته
ولا في البحث له
عن أسباب مُقنعة لضعفهِ
ابنكِ المُجتهد، يا أمي..
لم يعد قادراً بعد على إخفاء علامات رسوبهِ في مادة الحساب تحت السِّجادة. ولا علب الدخان الرخيصة خلف سيفون الحمَّام. ولا صور مجلاته الخلاعية في شقوق جدران المنزل. سرقتُ كلّ ما كنتِ تَجمعينَهُ وأخفيتُ بقايا حصَّالتكِ الخَزفية فوق سطح المطبخ.
صار ضرورياً جدًا أن أعترف لكِ..
أنَّني كنتُ أتعلَّق بباب المدرسة حين مزَّقتُ بنطالي الرمادي
وملابسي كلّها التي تمزَّقت لاحقاً..
كانت بسبب تعلّقي بأبواب كبيرة
ومرتفعة.
أنَّني كنتُ أهرب
حين أعطبتُ دراجة أخي الجديدة
ولا زلت أعطبُ كلَّ شيء..
في محاولاتي المُتكررة للهرب
أنَّني أضعتُ..
مع ريموت التلفاز..
قدرتي على التحكُّم بأيّ شيء
ومع ساعتي..
تعلُّقي بالوقت
ومع معطفي الأسود الثقيل..
تَمكُّني من تحمُّل برودة الخارج
ومع مِغرَفتكِ المُفضَّلة..
قُدرتي على تحريك حياتي التي تُعَدُّ
على نارٍ هادئة
ومع نعالي المهترئ..
قدرتي على المشي دون ضجيج
قُرب الحائط
ومع حقيبتي المُزركشة..
قُدرتي على إخفاء قميصي
المُمزَّق من الخلف
ومع مفاتيحكِ
قُدرتي على اختيار الوقت المناسب
للعودة إلى المنزل
ومع أسناني..
قُدرتي على عضّ أصابع النَّدم
أو التشبُّث أكثر
بهذه الذكريات.
ابنكِ الذي يَشبهني، يا أمي
کبُر
كبُر كثيراً
اغفري له
اجمعيهِ في كيسٍ أسود
وألقي بهِ
من السَّطح.
*نص: جعفر العلوي
*من ديوان: قبل أن يرتد باب الندم على أصابعي