أيقظها صوتُ احتكاك. كان يتصاعد شيئاً فشيئاً قبل أن ينقطع فجأة ويتوارى في لهاث.
نَظَرَتْ إلى ساعة يدها فلم ترَ إلا الظلام. سمعت تكتكة ولم ترَ وقتا. أصوات هاربة من الزمن. مدّت يدها إلى النصف الآخر من السرير فحَضَنَها الفراغ. ظلّت مستلقية تنتظر عودته. فلا بد أنه قام ليشرب أو ليقضي حاجة. مرّت دقيقة دقيقتان فثلاث ولم يأتِ. عاد إلى ذاكرتها صوت الاحتكاك الذي أيقظها. حاولت تحديد مصدر الصوت فلم يسعفها ذهنها الحائر ما بين النوم والصحو. تمنّت لو أنّ الصوت يعود لكي تحدّد مصدره. بعد دقائق — أو ربما كانت ثوانيَ — أخرجتها من لجّة النوم وثبةٌ شعرت أن قلبها كاد أن يقفز من صدرها على أثرها. نظرت إلى الساعة مرة أخرى فرأت عبر الشعاع المنسرِب من النافذة واحدا من عقاربها. كان يشير إلى أسفل. عندما ذكّرها السرير بخلو نصفه الآخر قررت أن تنهض لتوقف مطارق الأسئلة التي ما فتأت تدقّ جدران رأسها.
”ماذا تفعل في هذا الوقت المتأخر من الليل؟“ رأت زوجها جالساً يتأمل بعينين غائمتين لوحة زيتية تصدرت الصالون.
اللوحة لسيدة كثيرة اللحم مفلطحة الجسم تخفي وجها وتبرز عجيزة. أو بالأحرى كانت تستعرضها بثقة. هي تعرف اللوحة تمام المعرفة. كيف لا وهي من ابتاعتها واختارت بروازها وعلّقتها على الحائط حيث ينظر زوجها الآن بانكسار. بدا كما لو كان يعتذر للوحة أو بالأحرى لسيدتها المفلطحة.
استعادت عيناه بريقهما وقفز من على كرسيه كحيوان مذعور. اقترب منها. أراد أن يشتّت انتباهها عن رزمة الصور المكدسة بجواره على الأرض. تذكّر أن نهوضه لا بد سيلفت انتباهها إلى أزرار بيجامته المفكوكة. ها قد اكتملت أركان الجريمة! مسرح الجريمة: الصالون. الدليل: الأزرار المفكوكة. أداة الجريمة: رزمة الصور.
”لا شيء حبيبتي. لماذا استيقظتِ حبيبتي؟“ أجابها وهو ما بين الواقف والجالس يعيد ضبط أزرار بيجامته على عجل.
”سألتك ما الذي تفعله في هذا الوقت“ خاطبته بصوت مختلجٍ وعينين لامعتين.
”حبيبتي حبيبتي حبيبتي“ اقترب منها مادّاً يديه كمن يحاول القبض على دجاجة هربت من قنّها ”لا شيء. فقط أنظرُ إلى اللوحة. عودي إلى السرير حبيبتي“
نظرت إليه من وراء غلالة من دمع وصاحت بأعلى صوتها: ”لا لستَ تنظر إلى اللوحة“. وراحت ترميه بقبضتي يديها كما اتفق.
وهو يتلقى ضرباتها العشوائية الحادة لمعت في رأسه صور زفافهما قبل عام تقريباً. تذكرها واحدة واحدة بأصغر تفاصيلها. التقطها له المصور مقابل رزمة سميكة من المال. في البداية لم يقبل المصور طلبه الغريب وكاد أن يطرده من الاستوديو لكن منظر المال ورائحته سرعان ما خدّرا مبادئ المصور المهنية. كان طلب العريس بسيطا: ”أريدك أن تصنع لي نسخة إضافية من ألبوم صور الزفاف لكن بلا وجوه. الوجوه لا تهمّني إطلاقا.“ وبالفعل بعد أيام من انقضاء العرس سلّمه المصور ألبوماً سميكاً احتوى صوراً لأناس مكتملي الأعضاء والأطراف، سليمي البنيان لكن لا وجوه لهم. أجساد متداخلة بعضها في بعض. سيقان وأذرع؛ أكتاف وصدور؛ ظهور وركب؛ رقاب وبطون؛ بحر مائر من الأعضاء المتداخلة والمتشابكة والمجدولة تنتشر في حلقات الرقص وفوق الطاولات وعلى الكراسي والمسرح. كان يطلق على الألبوم اسم ”غابة الأجساد“ ويحتفظ به تحت مقعد السيارة حيث يرافقه أينما ذهب. يتصفّحه قبل إدارة مفتاح السيارة وعلى إشارات المرور وقبل مغادرة السيارة. يقلّب صفحاته؛ يبحلق في محتوياتها؛ يتوه في ”غابة الأجساد“ التي ما تنفك تفاجئه بتشكيلات وتصاوير جديدة كلما عاود النظر إليها. كان لا يتصور قضاء ولا حتى دقيقة واحدة بعيداً عن ألبومه. سبب ثانٍ جعله يحتفظ بالألبوم داخل السيارة كان خوفه من وقوعه في يد عروسه التي حتما ستحكم عليه بالانحراف أو الجنون هذا ناهيك عن ما سينجم عن اكتشافها من جلسات استجواب وتبعات هو بغنى عنها. لكن الواقع كان أفضل بكثير من مخاوفه. فعندما اكتشفت العروس، عن طريق الصدفة، ألبومه لم تحقّق معه أو تحكم عليه على الإطلاق. كل ما في الأمر أنها رفضت التجول في ”غابته“ وعقدت مع عريسها اتفاقاً. قالت له مستعيرة نبرة من خاب أملها أسرع بكثير مما كانت تتوقع: ”من الواضح أن هذه الصور تعني لك الكثير. لا أريد أن أفهم العبرة من ورائها فهذا أمر عائد لك لكن إن أردت البقاء معي فعليك إحراقها صورة صورة وأمامي.“ وفعلاً جاء العريس بألبومه على مضض ووضعه في تنكة قديمة ثم سكب عليه مقداراً وفيراً من الكاز أعقبه بعود ثقاب مشتعل سرعان ما التهم أوراق ”الغابة“ بأسرها. حين رأت انعكاس النار يتراقص على صفحة وجهه وعينيه المطفأتين أشفقت عليه واقترحت أن تشتري له لوحة زيتية من اختيارها لامرأة عارية تعلقها له في الصالون لينظر إليها متى شاء طالما كان ذلك بعلمها وتحت ناظريها. فوافق العريس واعتذر ووعدها بأن لا ينظر أبداً إلى جسد امرأة من وراء ظهرها.
عندما توقفت عن ضربه بسبب الإجهاد والنعاس ضمها إلى صدره بكلتا ذراعيه ثم حملها واتجه بها نحو غرفة النوم حيث أعادها إلى السرير. ”آسف حبيبتي“ قال لها ثم طبع على جبينها قبلة فيها من الصوت أكثر من العاطفة.
”وعدتني بأن لا تنظر إلى جسد آخر غير جسد سيدة اللوحة“ قالت له من دون أن ترى وجهه في ظلام الغرفة رغم أن عينيها كانتا مفتوحتين على مصراعيهما.
”والله كنت أنظر إليها“ أجابها مدافعا كمن يسحب سيفاً من غمده.
”لا تكذب! رأيت رزمة الصور بجوارك على الأرض“
لطمه ثقلُ كلماتها. لم يعرف كيف يجيب أو بالأحرى لم يعرف إن كانت ثمة جدوى من أن يجيب. استلقى بجوارها على السرير وراح يتابع بنظره خيالات الشارع التي انعكست على سقف الغرفة. كانت نقوشا ضوئية شفافة تتحرك بخطوط مستقيمة على طول السقف. افترض أن الخيالات السريعة كانت لسيارات والخيالات البطيئة لمشاة. لم يكن متأكدا من تحليله لأن زجاج النافذة المغلق كان يحجب أصوات الشارع عنه تماما.
”أعتقد أنها الأشكال التي تشدني إلى الألبوم“ قال بعد صمت طويل مخاطبا عروسه أو ربما نفسه. ثم كرّر بثقة: ”نعم إنها الأشكال“. ثم أضاف بينما كانت عيناه تراقبان حركة الشارع المنعكسة على السقف: ”الأمر يفوق طاقتي. الألبوم يقودني إلى غابة من الأشكال اللانهائية“. ثم سألها: ”صحيح لماذا لا تجربي. حاولي ولو مرة واحدة صدقيني ستغرمين بالغابة“.
أجابته بمزيج من الحدة والسخرية: ”لا شكراً! شجرة واحدة تكفيني لستُ بحاجة إلى غابتك“. ثم نهضت وأغلقت البرداية فغاصت الغرفة في الظلام وانمحت من السقف الخيالات الضوئية.
”أريد أن أنام تصبح على خير“ أعلنت وهي عائدة إلى السرير وسط الظلام الذي ابتلع كلماتها.
ظلّت عيناه معلقتان بالسقف تبحثان عن أي أثر لتلك الأشكال الضوئية. قبل أن يغلق عينيه قرّر أن أول شيء سيفعله غدًا هو التخلص من سيدة اللوحة إلى الأبد.
*نص: المصطفى نجار