حينَ تكونُ السماءُ ليلاً.. حينَ يكونُ الليلُ سماء – بسام حجار

أشخاص:
بلدان:
في ذكرى بسام حجار (17 فبراير)

خُذني الآن
إذا كُنتَ لا تَأنفُ الرُّكامَ
ولا تُمهلني عَاماً آخر.

ها أنَذَا
حُفْنَةٌ رَمادٍ باردٍ
نَثرَةُ ضَوء
عَلِقَتْ في شِقِّ الجِدارِ
وجَمَدَت هُناكَ
كالكسورِ المُبعثَرةِ لزُجاجٍ مُحَطَّم.

بَلی.
خُذني الآنَ
فما يُجديني عامٌ آخر
أو ثَلاثة
لم يَبقَ شيءٌ
إلا وهبتُ رُفاته
لِظلِّ سَروَةٍ
لظِلِّ جِدارٍ
أو ضَريح.

ها أنَذَا
حُفنَةٌ من التَّعَب والهُزال
قَصَبَةٌ یَبِسَتْ بقُربِ جَدْوَلٍ
ناضبِ
ودُخانٌ
وسَرابٌ
تُبدِّدُه النَّجَواتُ إلى
استراحاتٍ بعيدة.

يَدي تلكَ
مَلمَسُ الرُّخامِ الذي هو البياضُ
الميتُ
أو
صَفْوَةُ السَّواد إذا
أعْتَمَت العيونُ
ونَوَّرت الغِربانُ
صباحاتِ هذا العَياء.

وَرَأسي،
وَعَينايَ،
وفَمي
وقلبي ذاكَ
إلى أين أفضى
عُلبة في
جَوف عُلبة
في جَوفِ
عُلبَة…

بَلی
خُذني الآنَ
وإلّا أفسَدَ هَواءُ الصَّفصافِ
رُوحي
والأسقاطُ جَميعُها كَمِثلِ
رُوحي
عَتَّقَها الغُبارُ وصَمتُ الغُبارِ
في أَقْبية
هذه المَشَقّات.

ولا تُمهلني عاماً آخرَ
ضَجِرَتْ مِنّي الكَراسي والأوراقُ
والنَّوافذُ،
ضجِرَتْ منِّي الأَفكار التي أَخَافَتْني
وضَجِرَ منّي خَوْفي،
وأَسلَمتني الدُّروبُ إلى الدُّروبِ
وأسلمتني الأبوابُ إلى الأبوابِ
وما ظلَّلتني البيوتُ
وما آوتني الظّلال
وكُلُّ مَائدةٍ بلا ملْحٍ
كانَت.

ولي في الأرجَاءِ خُطواتٌ
ضالّةٌ
يَجمَعُها الصّدى في المكانِ
البَعيد

ولي أصداءٌ أَعَارَتْني خُفَّيها
وسرتُ بها
وما أيقَظتُ السِّرَّ
في قَلب السَّماء الَّتي هي اللَّيلُ
وفي قَلبِ اللَّيلِ الَّذي هو
السَّماء.

خُذني الآنَ
لَم يَبقَ شيءٌ
أصَابِعي تِلكَ،
لمَسَاتٌ مُسنّاتٌ،
أيبَستِ الشَّفَةَ المُبلَّلة بِقُبلةٍ
نَاصعَةِ،
بضحكة نَاصعة
وبَوحٍ أعمقَ من أسرارِ
روحي.

وعينايَ،
محاجرُ لزُجاجٍ مُطفأ
كالنَّوافذ في أسوار الحصونِ،
وعينايَ
عمياوان لا تُبصِرانِ
وإنْ أبصرتَا
صارَ النَّبات مِلْحاً
أو صارَ كُلَّ رَقرَاقِ
جَماداً

ولا تُمهِلُني عَاماً آخرَ
أفنَيتُه في الانتظارِ
قَبلَ أنْ يَأتي
وصَارَ مَاضيَّ
كاليومِ الشَّاغر الَّذي
يَدفَعُ اليَومَ الشّاغرَ إلى
عتبةٍ
أجهل ما الذي يقيم وراءها

بَلى.
أحبَّني المَلاكُ وأَحبَبتُه
وكُلَّما أحبَبتُه
لم أعثٌر في حُطامي على اليَدّ
التي كانت تَدُلُّ،
على الأنفاسِ الَّتي كانت
تُحيي فما الذي يُحيي الحُطَّام؟

وأحببتُ الوردةَ ولشدَّةِ
ما أحببتُ
جفَّت البتلاتُ
وما عَلِمتُ قَبل الآن أنَّ
يَدي البلا مَلمَسٍ
هي يَدُ الميّت الذي كنتُهُ
وقلبي قِربةٌ من البَّكاء،
وجسمي فزَّاعةُ طَيرٍ
نُصبَتْ في بَريَّةٍ مُوحِشةٍ
حَيثُ لا تَنضَجُ ثمار.

خُذني الآن،
إذا كُنتَ لا تَأنَفُ الحُطَّام
اجمَع ما استطعتَ مِنهُ
ما عادَ يُجديني،
اجمَعْ ما تَبقى:
صورةٌ لي مُمَزَّقَةٌ بَين أرضِيَّة
البَلاط
وسَلَة المُهمَلاتِ،
حٌفنة تَعَب وهُزال
ورَعَشةٌ في اليَدَيْن،
ضَجَرٌ واشتهاءٌ عَاجزٌ
وقَسَوة أنْ أريدَ ما أُحبُّ
وأن أفقد ما أحبُّ
وأن أجعلَ البَقاء
تمارينَ عادَةٍ
كالعيشِ
أو التَّدخين
وأودُّ الشِّفاء مِنها
ولا شِفاء.

خُذني الآن،
بلا ألمٍ
بلا حَيْرَة
أغلَقتُ المَناوِرَ والكُوى
وأشعَلتُ نَاراً
في حَطَبِ الانتظار،
فليس مُحزِناً
أو كئيباً
أو مؤلماً
أن تقطعَ الأرومَةَ المُهمَلَةَ
في وَعْرٍ مُهمَلٍ
وأن تُطفئَ
الهَواءَ
والفراشَةَ
وشَبَحَ الضَّوءِ
والنّافذةَ
والبصرَ
والشَّمَّ
واللَّمْسَ
والإصْغاء.

اجمَعْ ما استَطَعْتَ منِّي،
ما تَبَقَّى:
العينُ التي تُبصر،
اليَدُ التي أَيْبَسَتِ الوَردَةَ ويَبِسَتْ
حُزناً عَليها،
والفَمُ الذي مَا أَعَانَه النُّطْقُ
يوماً
وما أعانَه الصَّمت.

بلی.
هي البئر العميقة
وأحببتُ أن أسقُطَ فيها،
وهي السَّماء حين تكونُ ليلاً
وهي الَّليلُ حين يَكونُ سماءً
ولا أدري،
بين العَتمتَيْن كيف أقمتُ
أربعينَ عاماً
وما انتبهتُ
وما أيقَظني أحَدٌ
إلا المَلاك.

خُذني الآن،
فمَا يُجديني عامٌ آخر
أو عامان
أو ثلاثة.

لم يَبقَ شيءٌ
إلا وَهَبْتُ رُفاته
لظلِّ سَروَةٍ
لفَيءٍ
جدارٍ
أو ضريح.

ألهوَ الضَّريح حقاً أم إنَّ
ذاكَ طيفيَ الحَجَرِي.

وما كُنتُ أراه

وما كُنتُ أَعلَم.

*نص: بسام حجار
*من ديوان: بضعة أشياء

زر الذهاب إلى الأعلى