لا تعرف العيون إلى أين تذهب نَظَراتها – وديع سعادة

أشخاص:
بلدان:



العيون أيضاً

يعبرون، أفراداً وجموعاً، ولا أحد ينظر إليه.

إلى أين تذهب نظراتهم، لا يعرف. أين تحطُّ النظرة إنْ لم تحطَّ على ناس؟!

يسمع أنيناً تحت الأقدام. ويعتقد أنَّ من يئنُّ هناك هي العيون.

انتشلِ العيونَ من التراب وضعْها على الغصون، فالأشجار تريد أيضاً أن تنظر.

انتشلْها وضعْها على الحجارة، فربما الحجارة تريد أن تمشي وينقصها النظر، أو على الأقلّ تريد أن ترى من يقعد عليها.

ليس عدلاً أن لا يكون للنظرات مكان.

ليس عدلاً أن لا تعرف العيون إلى أين تذهب نظراتها.

وإن احترتَ إلى أين ترسل نظرة فضعْها على الطريق. قد يمرُّ أعمى ويكون في حاجة إليها.

قال هذا والجموع تعبر ولا أحد يلتفت إليه.

نظرات، يتيمة، في فضاء فارغ.

تمنَّى لو يخلق لها أباً، أمّاً، أخاً، رفيقاً…

نظرَ، ولم يرَ رحْماً.

نظرَ، ولم يرَ.

كأنه كان هو العابرين.

ومثلهم لم يعرف إلى أين تذهب نظرته.

كلمة فقط، أو إشارة

كلمة، كلمة فقط

أو إشارة

كي أرى بيتاً في تموُّجات الصوت

ومَقعداً في عروق اليد التي تلوّح.

كلمة أو إشارة

كي يقعد هذا الحشد الواقف في قلبي.

غيوم

في عيونه غيوم

ويحدّق في الأرض

علَّها تمطر.

لم يرَ طريقاً، لم يقلْ كلمة

كلُّ ما رآه كان مشهداً واحداً: قلبه

مسافة طويلة

طويلة ولم تكن

غير دوران في قلبه.

جاءت الريح وأخذته وهو جالس في قلبه

لم يرَ طريقاً

لم يقلْ كلمة

بحثَ عن طريق

عن كلمات

عن عيون

وذهبَ أعمى

وصامتاً.

المَقعد

مشى ناظراً إلى فوق، إلى الغيم الذي يعبر، وقال في قلبه: إنهم يعبرون أيضاً هناك.

هناك أيضاً فوق من يمشي، ولا مقعد له.

ولكن من هم هؤلاء الذين طلعوا من ماء ويمشون فوق؟ لا شكًّ بينهم أنفاسُ غرقى.

مُدَّ نظرةً إليهم، مُدَّ كرسيّاً، فلعلَّهم متعبون.

مشى خافضاً رأسه. لا يريد أن يرى أنفاس غرقى في الفضاء. مشى خافضاً رأسه، وانتابه حُبٌّ هائل للتراب.

ما في قلبي على الأرجح هو تراب إذاً وليس دماً، قال، ومشى.

ابحثْ في التراب حبَّةً حبَّة، قد تجد نفسك، أو على الأقلّ قطعةً منك.

قد تجد قطعة من أجدادك، ومن أحفادك الذين لم يولدوا بعد.

ابحثْ في التراب قد ترى أصدقاء، وقد تتعرًّف إلى ناسٍ لا تعرفهم.

انبشْ التراب الذي في قلبك، ستجد كثيرين مدفونين هناك، ينتظرون أن يصل مِعْولك إليهم كي يحيوا.

تعبَ وأراد أن يجلس.

على الطريق أحجار. حجرٌ مستطيل يريد أن يمشي. حجر مكوَّر يندب نفسه. حجر ذو ثغرة كفمٍ يريد أن يقول شيئاً. حجر مائل يستنجد بحجر آخر…

أحجار في جوفها شرايين، في جوفها دم… هل يجلس على دم؟!

ابسطْ نظرتك على الأرض واجلسْ عليها.

استرحْ في عينيك.

في العيون مقاعد. اسحبْ كرسيّاً من عينك واقعدْ عليه.

قديماً، مرَّ متعبون كثيرون وقعدوا في عينه. استراحوا قليلاً من سفر طويل، ثم تابعوا المشي على نظرته.

في ذاك الوقت كان يمكن أن تخرج العينُ من محجرها وتصير طريقاً. وحين يتعب الماشون، كان يمكن أن تعود إلى محجرها وتصير بيتاً.

كان يمكن تلك العين أن تؤوي آلاف المتعبين، وآلاف الضالّين، في محجرها الصغير، وأن تقدّم لهم طعاماً وشراباً من شرايينها التي لا تُرى.

الأحجار ليست مقاعد، وعلى حوافي العين رمل، قد يكون من الدموع. من دموع المتعبين الذين يمشون كلًّ حياتهم ولا يجدون مقعداً.

هيَّا، تابعِ المشي. لا تجلسْ على رمل. لا تجلسْ على دمع.

وافترضْ أخذتَ كرسيّاً من عينك وجلست. أليس كلُّ الذين تنظر إليهم يجلسون عليه؟ فهل تجلس على جالسين؟!

هم أخذوا المقعد قبلك. فبمجرًّد أن نظرتَ إليهم صار المقعد في عينك لهم. امشِ، لا مقعد لك في عينك ولا مقعد لك على الطريق.

امشِ.

وانتظرْ أن تنظر إليك عينُ عابرٍ آخر، فلعلَّك تقعد وتستريح فيها.



من ديوان: قُل للعابر أن يعود نَسيَ هنا ظِلَّه

زر الذهاب إلى الأعلى