“لا تحاول أن تكتب الشعر كثيرًا”: رسالة فروغ فرخزاد إلى الشاعر أحمد رضا أحمدي – ترجمة: خليل علي حيدر

أشخاص:
بلدان:


“لا تحاول أن تكتب الشعر كثيرًا. لا تنخدع بالإثارة والاندفاع، دع الأشياء تستقر في ذهنك


رسالة من فروغ

… سـعيدة جداً [أنا] لذهابكَ إلى مكانٍ لا صلةَ لهُ بهذهِ الحياة الثقافيـة المُصطنعة في طَهران. فلمن هو مثلـكَ، حائز على هذا الذكاء الوافر والذوق [الرفيع] وكذلك البراءة والنقاء الشديد والذهنية النظيفـة القابلة للتفاعل، تُعدُّ فترة من الحياة المُستقلة البعيدة عن هذه الحوادث المُفتعلة السطحية، بمثابةِ أفضل أرضية وحماية للارتقاء.

لا تحاول أن تكتب الشـعر كثيراً. لا تنخدع بالإثارةِ والاندفاع. دَعْ الأشياء تَستقر في ذهنكَ. تستقرُ طويلاً حتّى تعتقد أنَّها لم تَحدث أساسًا، مارس الحياة كي تخرج عن الرَّتابة، فالإنسان عندما يغمس نَفسـه في مجرى الحياة، يُعايش كلَّ يومٍ تحوُّلاً ومروراً بمراحل، ومثل هذا التحوُّل هو الذي يخلق الإنسان لحظةً بلحظةٍ ويوماً بيوم، ويعمل على تنميتِهِ. إذا رأيتَ نفسكَ تُكرّرُ فكرةً واحدةً مُعيَّنة، ضع القلم والورق جانباً مثلي، حيثُ قرَّرتُ أن أضعهما جانباً لمدَّةِ عام.

أمارسُ الحياة وأصبرُ قبل الشروع ثانية. المهم، عدم السماح بموت الجذور. دع الآخرين الآن يقولـون “أرأيتْ، هذا أيضًا بلغ حده”. إن نطـق أحدهم بهذا الكلام وبلغ سـمعك، لا يَنبغي أن تُبادر إلى الإجابة، قُل لنفسكَ في سرّك: لستُ مصنعاً لإنتاج الشعر ولا أبحث عن السـوق. إنَّ الوظيفة الوحيدة للإنسـان عندما يَصل حقاً إلى مرحلة الإبداع في اعتقادي، أن يقوم بإبراز هذه الطاقة بعيدًا عن كلِّ انتظار أو تقييم. فما الفرق بين أن يَتحسر على وفاتكَ في مجلسٍ للعزاء القاطنون في الريفييرا أو “قهوة نادري”. الإنسـان يعود كالميت إلى مجلس عزائهِ. يعود بكيانٍ جدیدٍ شابٍ مُذهل.

الوسـطُ الأدبي على حالهِ كما كان، الكثير من الثرثرةِ والكلامِ الفارغ والقليل من الإنتاج.. إنَّني مُصابة بالغثيانِ وأسـعى جهدي في الابتعاد عن هذهِ المَقاييس والأهداف الحمقاء التافهة. إنَّني أُفكِّر بالعالم خارج إيران، وإن كان الأمل في بلوغ العالمية ضئيلٌ جداً وربما لا يزيد عن الصفر. ولكن ما هو إيجابي [في هذا الأمل] أنَّه يُنجي الفرد من ضآلةِ حجم هـذا المحيط الأدبي، الذي لا يزيد بالأمتار عن 4×2، وكذلك من ديدانِ الأحواض هذه، كَما أنَّ هذا الأمل لا يَجعلك تخشـى مـن أن المراكز الثقافية في هذه البلاد قد درستْ انتاجكَ ولسوء حظّكَ رَفَضته. بل رُبَّما يجعلكَ تَضحك.

كتبتُ كثيرًا.

عزيزي أحمـد رضا -لا تنسَ “الـوزن”، لا تغفل عن قُدرة البُلبلِ. استمع لكلامي. إنَّ أُمنيتي واللهَ أن تشـقَّ موهبتكَ ورهافة حسّكَ وحسـن ذوقكَ مساراً راسخًا ثابتًا يُمكن الاطمئنان إليه. فكلامُكَ له مـن القيمةِ ما يجعلهُ جديراً بالبقاءِ في الذاكرة، أعتقد أنَّك لم تجد إلى الآن أسلوبَكَ المُميَّز، والطريق الذي تسير فيه لـن يقودكَ إليه. هذا الذي اخترته لا يُسمى بالحرية. إنَّه نوعٌ من [اختيار] السهولة والراحة. تماماً كما لو قام أحدهم بالدوس على سـائرِ القوانين الأخلاقية زاعمًا: لقد تعبت من هذا الكلام، ثم يعيش في عشـوائيَّةً وفَوضى. بينما كلُّ تدميرٍ لا يَنجم عنهُ بناء جديد، لا يُمكن اعتباره في ذاتهِ عَملاً يَستحق الثناء.

ابذُل كلَّ جُهـدكَ في التأمل، وفي ممارسة الحياة مستوعباً إيقاعها. فإنَّك لو أنصتَ إلى أوراقِ الشَّجر ستجد أنَّ لاهتزازها فـي الهواء إيقاعاً مُعيَّناً. هكذا أجنحة الطيور. عندما تريد الارتفاع تخفـق بأجنحتها، بقوة وبشكلٍ متوالٍ، وعندمـا ترتفع تطير في خط مستقيم. هكذا أيضاً جريان المـاء، هل نظرتَ ذات مرة إلى مجرى الماء؟ إلى التعرُّجات والجـداول، وترتيب هذه التعرجات والتشـعُّبات. هل لاحظتَ عندما تُلقي بحجرٍ في حوض ماء، بأيّ حسـابٍ وطريقةٍ واضحة للعين تتداخل الدوائر وتتَّسع. هل تأملتَ في أيّ وقتٍ حلقات الأغصان المقطوعة، كم هي متجاورة بتناغم وبشكل متوازن. ولو شـاءت هذه الحلقات أن تمضي في مسيرتها هكذا بلا حساب، لما رأينا تناسقاً في حجم الجذوع. مثل هذا النظام نراه سـارياً في كل أجزاء الوجود. هذا الحساب الدقيق والتحديد موجـودان. ولو دققتَ النظر أكثر لفهمت كلامي. كل ما يظهر إلى الوجود يحيا ويخضع لسلسلة من النظم والحسابات المحددة ينمو داخلها. هكذا الشـعر. وإن كنت ترفض والآخرون كذلك يرفضون، فهم مخطئون باعتقادي. إن لم تضع الطاقة في قالبٍ ما فإنَّك تبددها ولا تستطيع الاستفادة منها، مؤسف أن تضيع رقَّة مشاعرك، ألا تجد كلماتكَ الجميلة الحيَّة قالبها في التعبير الفني. ستدركُ ذاتَ يومٍ أنَّني كنتُ صادقة.

كتبـتُ كثيرًا. أرجـو ألا أكون قد أرهقتكَ. اكتُبْ لي الرسـائل.. يشعرني ذلك بالسعادة. اعتبرني شـقيقتكَ. وإن كنتُ لا أكتب إلا في فترات متباعدة فإنَّني بالمقابل أكتبُ كثيرًا وفي النهاية يعوُّض أحدهما الآخر.

تمنياتي لكَ بالتوفيق.



للاطلاع على إحدى قصائد الشاعر أحمد رضا أحمدي:
https://antolgy.com/ours-fe-alshetaa/




*نص: فروغ فرخزاد
*ترجمة: خليل علي حيدر
*من كتاب: فروغ فرخ زاد : نصوص نثرية، مقابلات، نصوص، رحلات

زر الذهاب إلى الأعلى