لذة المرض: سيرة المستشفى (مختارت) – أحمد راشد ثاني

أشخاص:
بلدان:

1

لا، ليست المرَّة الأولى التي تحرثُ فيها البحر،
فلطالما حملتَ الأمواجَ إلى مزارع الظنون،
وملأتَ حُفر الأوهام بالمياه الزَّرقاء الصافية،
لطالما دفعتَ قواربكَ الورقيَّة ما بين نباتات المُستنقع السَّامة،
ومشيتَ على ركبكَ في الأحواض الجافَّة، وذاقتْ أصابعكَ جروح الكؤوس المهشَّمة.
لا، ليست المرَّة الأُولى التي تتسلَّقُ فيها ذاك الجبل،
فلطالما تساقطتْ نظراتكَ من ذلك العلوّ،
وتدحرجتْ أفكار جسدكَ على الصخور المُسنَّنَة،
وأنزلتكَ أجنحةُ أحلام اليقظة على كُثبان الرَّغبة،
تشعل النار التي تقود الضِّباع إلى زريبة مخاوفكَ،
وتملأ أوان العطش بعرق لهَفاتكَ.
لا. ليست المرَّة الأولى التي تقطعُ فيها صحراءَ هذه
الغُرفة،
وتخرجُ الآبارَ من أدراجِها،
والأفاعي من كهوفِ الصَّمتِ،
الرَّملُ الكثير الذي تكدَّس على الطاولة تَقود له عاصفة اللغة،
وتَحملُ السرابَ في كأسكَ كما تُحملُ النِّعمة في المعابدِ،
الظلُّ مجدُكَ واقفٌ بانتظارِ ابتسامة الشمس،
والسماءُ على أهبَّة الاستعداد كي تركض خلفكَ،
فليس هنالكَ من مُشكلٍ، فتنفسكَ طبيعيٌّ، ولذلك لا تعرف بأنَّكَ تَتَنفّس.


2

عالمُ جسدكَ عالمان،
عالمُكَ المحدودُ،
عالمُ جسمكَ حيثُ جُمجمتكَ التي تُشبه ثَمَرة جوز
هند يابسة،
وعينيكَ المُختبئتين في محجريهما كزعيميْن عربييْن
هاربيْن،
وأنفكَ الوارمُ في منتصفِ وجهكَ
وشفتيكَ المدلوقتين كجرَّتين فارغتين،
وقليلٌ من الشَعْرِ أو كثير منه
وقد ترمَّد من الأسى
هذا هو رأسُكَ الذي يحمله جُثمانُكَ على الأرض،
الذي تحمله كتفاكَ الهزيلتان،
الواقفون كحراس أبراجٍ غابرة على قفصكَ
الصدريّ،
ذلك القفصُ الذي يشبه «دوباية» قديمة،
برزت عظامها على قلبكَ الضَّعيفِ
ورئتيكَ المهترئتين
وكبدكَ التي توشك على التَّلف.
ثم ماذا يتبقى بعد ذلك؟ المعدة ومجاريها وتلك القدمان النحيفتان من كثرة ما التهمتهما ظلال الطرقات.


هذا هو جسدُكَ الظاهر،
جسدُكَ الذي تراه مرآة الجدار،
جسدُكَ الفاشل في الهواء،
جسدُكَ الجلدي،
المكسو بجلدكَ المتغضّن،
بمسامات جلدكَ المتكلِّسَة،
جسدُكَ الممدَّدِ على السرير كعيِّنة،
جسدُكَ النابض ككهفٍ مهجور.
تحت هذا الجلد كون لو تدري،
تحت هذا الجلد مجرَّة تجري في هواء الدَّم،
آلة تتحرك من احتراق لحمِ النَّبض.


تحت هذا الجلد الطبيعة كلُّها بغاباتها وأنهارها وبحارها وسماواتها ويابستها، وقد وصلتْ إلى المُلخَّص من سيرتها، فالجسد الإنسانيُّ بلا شكٍ يُغري أكثر من غيره بفكرة الخالق المبدع، فالمستحيل حدث فعلاً، إنَّهُ تحت جلدي.


إنَّني هناك أيضاً في الكون، تماماً كما أنا تحت جلدي. إن موسيقى حركة المجرة تحت جلدي هي نفسها موسيقى حركة المجرات في الكون. إن جسدي ليس قُربة نفخَ فيها أحدهم كي تكون موسيقى فرعيَّة، إنَّ جسدي متى ما تنفَّس بصحةٍ وعافيةٍ وطبيعة فإنَّه يتنفس مع الكون، وكما يتنفس الكون.


3

اليوم الخميس…
طاولته امتلأتْ بهيجاناتِ النَّبض،
بوميضِ العُروق،
باهتياجاتِ المَفاصل،
بحرقاناتِ الأفكار،
بالتهاباتِ اللحظة،
باضطراباتِ الأسئلة،
بتفتقات الضحك،
بوسامةِ الفَراغ،
بأسلحة الرَّغبة السرية،
فمن يقوم معه من هذا الجلوس إلى الكلام،
ويصعد إلى مرقص الخلايا،
الرؤوس مكتظَّة بالنَّزق هناك،
وتتدلَّى من الأجساد مفاتيح الأمواج،
فلتضف إلى رأسكَ مزيداً من الجمر،
وتلتهب نظراتكَ في ذلك المَمَشى الجارح،
على أيةِ قيامةٍ تضع يدكَ،
في يد أيّ صُدفة،
ومن سترافقكَ هذه الليلة إلى حديقة اللَّمس،
الأغنية استولتْ على مصب الرَّغبة،
تمايلت جدائل الماء في تفكير الحوض،
رقصتِ اللحظة مع نفسها،
ودخل الكلامُ إلى غرفته،
واستعدَّ المفتاحُ كي يدور في باب المستحيل،


الاهتزازُ يبحث عن إيقاع، والإيقاع يبحث عن اهتزاز،
وحين وُضِعت المسافاتِ في الجيب، واتفقتِ المرايا مع
النوافذ،
والأبوابُ مع الموسيقى، وجدوا المصاعدَ توصلهم إلى
الفجرِ،
حاملين أنفسهم إلى السباحة في ماء الأسرَّة،
متفتحة أجسادهم وكأنَّها قبور عادت من الموت،
الآن سيحدث الخلود وتمتزج السماء بالبحر،
والجسد بالروح،
والرَّغبة بالنفض،
وتلك الخلجات المُتضاربة والمُتصادمة حتّى ينكسر
النَّبع،
ويمتلئ الحجر بنبيذ الهواء.


تصبحون على خيرٍ أيُّها السُّعداء،
المملوؤن حتَّى البهجة بماء الأبد،
النائمون الآن كأمواجٍ في المحيط.

أبوظبي ديسمبر 2011


*نص: أحمد راشد ثاني
*من كتاب: لذَّة المرض: سيرة المستشفى

زر الذهاب إلى الأعلى