لا أعرفُ كيف ومتى وصلتُ إلى حيثُ لا يصلُ الأنصارُ أو الشُّهودُ.
جاءتْ عرباتٌ تجرُّهَا كائناتٌ، نصفُها بشريٌّ
ونصفُها حمارٌ وحشيٌّ.
رموني مع الذين قضوا نحبَهُم.
كنتُ مختنقِاً.
ولم أكنْ ميتاً تماماً.
كنتُ بلا نَفَسٍ تقريباً.
لا أعرفُ ما الذي أصابَني.
كان هناك هواءٌ حامضٌ
ومُرُّ وحرّيفٌ وثقيلٌ.
تنفَّستُهُ.
فلم يكنْ هناك هواءٌ غيرَهُ.
لابدَّ أنَّ لوني شَحبَ
وأطرافي ارتجفتْ
وفمي طَفَحَ بزبدٍ.
رأيتُ آخرين على هذه الهيئة
لكنَّهم كانوا متخشِّبين.
قطعةً واحدةً.
هكذا يكونُ الأمواتُ، أليس كذلك؟
لأنَّ الدمَ والنَّفس والذكرياتِ
تُطرِّي الجسد، وتجعلُهُ قابلاً للانثناء.
بسبب كَثرتِنا،
لأننا ملأنا الأرضَ التي كانت خضراءَ بما لا أدري
فصارتْ خضراءَ من القَيءِ وبرادةِ النُّحاسِ المُجنْزرِ،
راحوا يرمُوننا على عجلٍ في العرباتِ
التي ظلَّتْ تعمل على مدارِ الساعةِ.
هكذا وصلتُ إلى هنا خطأ.
ربَّما.
لستُ متأكداً.
كنتُ بلا طاقةٍ، لأدافعَ عن بقايا نَفَسي
ونبضي الضعيفِ
وقدرتي
على رؤيةِ الأشياء بالأخضرِ
وذاكرتي التي طَفِقَتْ تستعرضُ
كلَّ الأشياءِ التي أحببتُها،
خصوصاً الماء.
عطشانٌ.
رأيتُ ماءً كثيراً.
رأيتُ ينابيعَ.
شلالاتٍ.
أنهاراً هادرةَ.
واحاتٍ في صحراء.
ماءً ينزُّ من كتفِ جبلٍ.
….
عندما قامُوا بِفَرْزِنا صحوتُ.
رأوني أُحرِّك يدي.
لم أكن أرتدي كفناً. كنتُ في ثيابِ العملِ، في جُيُوبي أقلامُ رصاصٍ، مفكَّاتٌ، مفاتيحُ. هل كنتُ حدَّاداً، نجَّاراً، ميكانيكيَّاً، أم شاعراً؟ لا آثار بلطات أو طلقاتٍ على جسدي. حاروا أين يضعونَني! هذه قوافلُ الموتى تتوافدُ. هناك مهاجعُهُم التي يُفرَزُون إليها بأرقامٍ في أعناقهِم. وأنا لستُ ميتاً. لا يصعدُ الأحياءُ إلى هذه الأعالي. أجسادُهم أثقلُ من أن تُنْقَلَ حتَّى في عرباتٍ تجرُّها كائناتٌ، نصفُها بشريٌّ، ونصفُها حمارٌ وحشيّ.
لا يصعدُ الأحياء إلى علِّيِّنْ. لم يتذكروا أن حيَّا وصلَ إلى هٌنا، ولا يعرفون كيف يعيدونَ الأحياء، فَمَنْ يصلُ إلى هنا لا يعودُ. سألوا مَنْ أنا؟ نسيتُ، بالضبطِ، مَن أكون، فقلتُ لهم: رسولٌ! جفلُوا. ليست هيئتي لرسولٍ ولا يُرمَى الرُّسلُ، كيفما اتَّفق، في عرباتِ الموتى. تغيَّرتْ ملامحُهُم، فقلتُ لهم كلّا، لستُ رسولاً إلهياً، فلا أقوى على ذلك، ولكنْ، بما أنني وصلتُ إلى هنا، ولم يفعلْ ذلك حَيٌّ قبلي، ربَّما شاعران، أحدهما يُسمّى المعرِّيُّ، والثاني يُدعى دانتي، فأنا رسولُ الذين ظلّوا في بلاد البراميلِ والسارينَ في مملكةِ آدم التي ترون من مرتفعاتِكم البعيدةِ هذه اللهبَ الذي يتصاعدُ من أطرافِها، والدخانَ الذي يلفُّها، والروائحَ التي تزكمُ الأنوفَ (ألَّا تشمّونها؟) وبما أني وصلتُ إلى هنا خطأ، وهذا على ما يبدو لم يحدثْ من قبلُ، فهناك احتمالان: أنَّ الأخطاء ليست عُمْلةً بشريةً فقط، أو أنَّ في ذلك دلالة.
قولُوا له إني أريدُ أن أراهُ.
أريدُ أن أقولَ له إني قادمٌ من مملكةِ مخلوقِهِ آدم، حيثُ صارت الكلمةُ للزُّومبيِّين،
مصَّاصي الدماء،
أَكَلة لحومِ البشر،
هَاتكي الأعراض،
مُغتصِبي الصِّبيةِ الصغار،
رجال الخازوقِ والكراسي الكهربائيةِ،
مُحوِّلي القرودِ إلى بشرٍ، والعكس،
عاقِّي آبائهم وأُمَّهاتهم،
الذين يقطعونَ الرؤوسَ كَدَرسٍ سريعٍ في التَشريحِ،
خَزَنَةِ البَراميلِ المعبَّأةِ بـ التي إن تيْ والمساميرِ وأنصالِ السكاكينِ… وغيرهم وغيرهم.
لستُ متأكِّداً أنَّه على علمٍ بما يجري، أو رُبَّما نَسيَنا، فَمَن نحنُ في كونهِ اللانِهائيِّ؟ هناكَ شيءٌ خطأٌ. ليس وصولي إلى هُنا، ولكن تركنا في ظلماتٍ، لم يَنرها قبسٌ واحدٌ يدلُّ على قدرةٍ، أو حكمةٍ من أي نوعٍ.
ومثلُ موسى لن أبرحَ مكاني هذا الذي لا أعرفُ أينَ هوَ حتَّى أراهُ يُشير بأصبعَيْه، ويضعُ طرفَ إبهامهِ على أنملةِ الخُنصرِ، فتسيحُ سبعةُ جبالٍ دفعةً واحدةً، فأنا ابنُهُ مثلُ أولئكَ الذين لولا الصحراءُ والحَيْرةُ ما صاروا أنبياءَ.
من ديوان: مملكة آدم – أمجد ناصر
522 2 دقائق