من أنتَ فينا أيُّها العدو؟ – عبدالعزيز جاسم

من أنتَ فينا أيُّها العدو؟

(1)

لم تَكُن الحياةُ المَلولةُ هذهِ تَسَعُني، أو لعلِّي لم أكن أَسَعُ الحياة!

الواحـدُ مِنَّـا كـان يَضـيـقُ بـالآخرِ: يَكـنِسُ خَطـوَهُ ويُهيـلُ الغُبَـار علـى أَثَرِه. أو رُبَّما شَخصاً ثالثاً، كـان يُطلِقُ الرَّصاصَ بين كَتِفيْنا ويُفرِّقُ ما بيننا.
كـان هـذا العـدُو، وأقـول: رُبَّمـا نَفْسي، أو الحيـاةُ، أو شَخصٌ ثالـثٌ. يَعمـلُ بالخفـاءِ كَمَن يَحفرُ نَفَقاً في رِئتي. يَندَّسُ بين جِلدي وعَظْمَتي. وأحياناً، كنتُ أشعرُ بهِ يَنفَخُ في أُذني. لا شُـغلَ يُبعِدُهُ عَنِّي. لا حـربَ ولا سِلم. لا نسيانَ ولا مَنفى. وكان مِثلَ عَاشقةٍ غيورةٍ يوزِّعُ الغِلَّ على أيامي، ويمنعُ عليَّ رُقـادي. لكـم وَصـلنـي صـَوتُـهُ وهـو يَـدقُّ مِسمَارَهُ في نَعْشي. يُطاردني أنَّى ذَهَبْتُ، ويَبيتُ لياليهِ مُنهِمكاً في إشعالِ الحرائقِ في رَأسي.

كان يعملُ ضدِّي، أو مَعي، أو من أجلِ شخصٍ ثالثٍ. يَدفع بي إلى تُخومٍ قَصيَّةٍ. يُشوِّشني، وفي الفضاء اللَّيلكي يَرفعني على المَنصَّات كالنَّشر.

لرُبَّما أرادَ لي النجاةَ وأسأتُ به الظَّن. أو لرُبَّما تآخَى ضِدِّي وأرادَ القَضَاءَ عليَّ!

ولكن من أنتَ فينا أيُّها

العدو؟


(2)

مـن جـبـال السـَّرمَـدِ، مـن دُفؤاتِ المُطلَقِ، حيثُ يَنمو اللاشيء كالوليدِ بَين غِيـاضِ الزَّيتون؛ أتاني صَوْتُهُ هادئاً ورخيماً:

“كنتُ الجَليدَ المُتراكِمَ فـوق رَحمِ الأرض، وكنـتُ النـارَ الكامنةَ تحتَ الجَليد. كنـتُ القوسَ والسَّهم واليدَ التي تُطلقُ السَّهم، و كنـتُ قلـبَ الفـراغِ الـدَّامـي الـذي يَسـتقبِلُ السِّهام. كنـتُ المَحـارةَ اليَتيمـة فـي القـاعِ المُظلم، و كنـتُ مـن انتَحَـرَ البحـارةُ مـن أجلهِ. كنتُ مِصباح ديُوجِينَ وخيطَ أريانَا.

كنتُ ثقبَ الظـلِّ الـذي يَهرِّبُ الأبـدَ إلـى صحراءِ روحِكَ، لتراني وأرَاكْ. كنتُ الخاتمَ والإصبعَ وصانِعَ الخَواتم. كنتُ من يَكرهني الغبيُّ، ويفرُّ من أمامي الجاهلُ، ويَفطِـسُ في لُجَجِي الأدْعياءُ. كنـتُ المـدَّ والجَـزرَ والبوصلةَ والجِهةَ ومن يَجرُفَ الحُدود. كنتُ البحرَ اللامرئيَّ والسماءَ النائمـةَ فـي سَـلامِ القواقعِ. كنتُ الصِّراعَ والمُصـارِع والصَرَع والمصرُوعَ بي يَشفَى. كنتُ المَتاهةَ الجَذلي. أوقفتُ الخليقةَ قُروناً عند بابي، وما تنغَّمتُ بصوتي مُطلقاً إلا لمن تسلَّق جِبالاً وَعِرة ليستنشقَ هَوائي. كنتُ رسولُ الأراضِي التي أُلغيتْ منها الحياة، وكنتُ الحياةَ المُرسلةَ إليكَ كدوائرِ المَاء.

كنـتُ مـن لـم يَلـدنـي بطـنٌ، ولا أَرضَعتني غيمةٌ، ولا احتوتني بُلدان. كنتُ من أُعلِّمُكَ كيـف تَمشـي علـى ظهـرِ السَّبُع، وكيـف بِلمسَتيْن تُعيدُ للزجاجِ المُهشَّمِ نَضَارته. كنتُ الحَفيفَ الذي يوقِفُ شعرَ القِططِ ويرفعُ آذانَ الصُّخور. كنـتُ الإشـارةَ المُريَّشـة وكنـتُ مـن يَجلـس قبالتَـكِ علـى الكُرسـيّ الفَارغ شابكاً أصابعي على الطاولةِ نَفسها، وأحدِّقُ في عينيكِ الجَميلتين. كنتُ، طِفلَ هذا الوجودِ وشيخَهُ. خادِمَهُ وسيِّده. حبيبَهُ ومَصيرَهُ.

كنتُ من يُسمونَني المُبهم، يَتعثَّرون بأورِدَتي ويَسقطونَ فيَّ يومياً. كنـتُ أنـا المَجهول، بقفَّازين بلا أصابع: أفتحُ لكَ بوابةَ الحُصنِ العَتيق، كي تخرجَ كغوَّاصةٍ بَيضاء، وتبحر معاً حيث المَجرَّات واسِعة”.


حائك الرماد

ينسجُ وينسجُ، حائكُ الرَّمـاد! علـى مِنْوَلِهِ القَديم يَنسـجُ. بأصابعهِ النَّاقصـة إصبعاً، وبِرقبتهِ التي تُطقطِقُ كَصـوتِ مطـرٍ يـرِخُ على الألواحْ.

ينسجُ وينسجُ. يجلـسُ وحيـداً فـي شُـرفته الخَشبية. شُـرفته التـي هَجرتهـا طُيـورُ الدِّغنَاشِ، وذَبُلَ اليَاسمين من حولها. على كُرسيه المُخلَّـع يَجلـسُ. بشـعرهِ الأَشهَبِ وعُيونـهِ الواسعةِ التي تبلـعُ حُـزنَ العـالم. يُحصي سنوات عمره. يحصي إبرهُ المُدبَّبَة.

يُدخِّن. يَنفخُ الغُبَـار عـن نَظَّارته، ويديرُ فوتوغرافهُ القَديم.

ينسجُ وينسجُ، حائكُ الرَّمـاد. يقتلُ خيطانَه بهمَّةٍ. يفتِلُ مَشاعرهُ وحياتَهُ وما تبقَّى له من حُطـام. يتحسّسُ عُروقَ يَديهَ. يُفكِّر: هي خيوطٌ أيضاً! يشدُّ قَبضته بقوَّةٍ. يَشدُّها على أشلاءِ ذكرياته المنثورةِ كحبَّاتِ حَبَقٍ يَابِس.

يُكلِّمُ نَفسه ولا يُكلّمها. يُغني قليلاً، ويواصلُ نسجه، بأسنانهِ يقطِّعُ خيطانَهُ، ويكوِّم قِطعاً مثـل الأشرِعَةِ على الأرض. يرفـعُ بَصـره للسماء الغائمة: البرقُ من فوقهِ فَالتٌ لِجَامَهُ ككُرباجِ ثِيرانٍ، والحياةُ من تحتهِ تمرُّ مع العابرين مثلَ مَصَّاصةِ دماء.

ينسجُ وينسجُ، حائكُ الرَّمـاد، مثل من يعزفُ علـى آلـة قـانون. هكـذا، منحنيـاً كـعُـروة الإبريق على مِنْولِهِ. يعمل الوقت كُلَّه، وينامُ متدثِّراً في مكانهِ ككلبِ حِراسة.

إنَّه منذُ سنوات. منذ الإعصار. منذ أن بلعَ الموج جوهرته. وهو يرابطُ كالجاموس أمام الوحش الأزرق بعينين نَاشفتيْن. وكان في المسـاءات الرَّائقة، حـين تصـفو السَّـماء وينبلجُ البدر. يَرى شبح امرأةٍ تَمشـي فـوق الماء وتُناديه باسمه. تُناديـه كمـا لـو أنَّها قَدَمت من القاع، وتطلبُ منه انتقَامَها.

ينسجُ وينسجُ، حائكُ الرَّمـاد. إلا أنَّه ذات يوم، توقَّف عن النَّسج، فتوقَّف كلُّ شيءٍ معه. تماماً كما لو أنَّ ساعة الصفر قـد أزِفَتْ الآن.

الحَارةُ الفَارغـةُ بـدت مُغطَّاة برُمَّتِها بكفَـنٍ أبيض، والشُّرفة العالية أُسدِلَت عَليها ستارة سوداء. بينما رجُلٌ، وعلى صوتِ فونوغرافهِ القديم، أخذَ يَنزِلُ الماءَ مع حِربَته العَتيقة، كَمَن قرَّرَ طَعنَ البَّحرِ أخيراً.



*نصوص: عبدالعزيز جاسم
*من ديوان: آلام طويلة كظلال القطارات

زر الذهاب إلى الأعلى