مُحرِكةُ الدمى
في السادسة عشرة من عمري أدركتُ أنني أريد أن أصبح مُحَرِكة دمى، ولكن الحياة دفعت بي في طريق آخر. أعملُ الآن كموظفة استقبال في فندق، وأحيانًا أشعر بأنني دمية يحركني مدير الفندق، مسؤولي، مدير الموارد البشرية، والضيوف. دميةٌ دائمةُ الابتسام تتحدثُ بنبرةٍ تكادُ من فرط التهذيب لا تكون حقيقية. ولكنني اليوم في السادسة والعشرين وقررتُ أن الوقتَ قد حان لأحقق حلمي.
أبدأ بدمية المسؤول. أرفعُ ذراعيه وأقلدُ صوته العصفوري: موظفةُ الاستقبال هي الأكثر ذكاءً في هذا الفندق، يجب أن تكون هي المسؤولة. كما أنها، وإن لم تكن تدركُ ذلك، جميلة.
أكررُ الأمر مع مدير الموارد البشرية مقلدةً صوته الشبيه بزمجرة أسد ضَجِر: نعم إنها موهوبة وتتحدثُ خمس لغات. سنُرَقِّيها وسيكون من الجيد أيضًا أن نراجع طلبها لتغيير الزي الموحد.
والآن أصلُ إلى المدير العام، أرفعُ ذراعيه وأمنحهُ صوت مغني تِنور: أنا محركُ دمى بائسٌ وفاشل، ولا أسمح للدمى أن تؤدي أدوارها، فموظفة الاستقبال هي في الواقع أميرةٌ في عرضٍ آخر، ويجب ألا تكون جزءاً من هذا العمل السَمج المعنون فندق الهوليدي إن.
وهكذا انتهى عرضي الأول. تمكنتُ من تحريك هؤلاء الأشخاص كالدمى التي رَفَعَتْ أيديها، بينما أبتكرُ لها أصواتًا وكلمات، قبل أن يصمتنْ. المسدس الذي أصوبه إليهم لا يشبه الخيوط التي تحركُ أطراف الدمى، ولكنه في نهاية المطاف يؤدي الغرض ذاته.
أعيش
راجعنا تصريف الفعل vivir في درس الإسبانية اليوم.
أتقنتْ مجموعة للمبتدئين (رقم 1 – من 17:30 إلى 19:00) تصريف الفعل في زمن المضارع لضمير المتكلم المفرد.
Vivo – أعيش.
أعيشُ في بيتٍ أحمر. أعيشُ في رقم 23 في كونْغِنْسغيت. أعيشُ في بووده، قالَ الطلبة. كتبتُ أمثلتهم على السبورة. رَسَمتُ خطين لحرف V، خطاً واحداً لـ I، خطين آخرين لـ V، ودائرة.
VIVO – أعيش.
بطبشورٍ أبيض، كتبتُ vivo إحدى عشرة مرة. وحين انتهيتُ وجدتُ نفسي مرهقةً وفي حلقي غُصّة. كيف أخبرهم الآن، وهم فخورون جداً بجُمَلِهم، بأن العيشَ ليس مجرد منزل، عنوان بريدي، مدينة ودولة.
إحدى عشرة مرة، قرأتُ vivo، واسترجعتُ حيواتِ القِطْ التي عشتها، استحضرتها جميعاً حتى هذه اللحظة. أعيشُ، وأعيشُ، وأعيشُ، حيواتٍ أخرى، مراتٍ أخرى.
ارتعشَ صوتي وأنا أشرح لطلابي الأحدَ عشر بأن لـ vivir معنىً آخر لا داعي لشرحه الآن. لا أستطيع شرحه الآن.
لا نصل إلى هذه الـ vivir إلا في مستوى متقدم.
خشب
بين حينٍ وآخر أتلقى أطلبُ للعملِ في الَمنْجَرَة. يمكن للمرء أن يجازف بفقدان يده أثناء هذا العمل، ولكنه عملٌ سهل لأنني عملت في ورشة نجارةٍ حِرَفية قبل عدة سنوات تعلمتَ فيها قصَّ الخشب في خطوط متساويةٍ وقطعٍ مثالية.
العمل في الَمنْجَرَة رتيبٌ جدًا. كل ما عليّ فعله هو تقطيع الخشب إلى قطعٍ متماثلة. لأفعل ذلك أدفعُ بقطعة الخشب تجاه المنشار، وأُبعِدُ جذعي عن النصل بحركة طفيفة. أُسنِدُ يدي إلى الخشبِ وأدفعهُ بثباتٍ ودون خوف نحو النصل، ولأتفاداه أُمددُ جسدي وأُقوِّسهُ كقطٍ يستيقظ متململًا بعد نوم عميق.
أفكر في الكتابة بينما أقطعُ الخشب. أدركتً أثناء عملي في الَمنْجَرَة أن العملَ في بيئةٍ خطرةٍ تتكررُ فيها الحركات برتابة على وقع الضوضاء، يمنحني الانفصال الذهني المطلوب للكتابة. ظننتُ أنني أحتاج إلى صمتٍ وعزلةٍ لأكتب. ومؤخراً كنت محاطة بالكثير منهما، ولكن يبدو أنهما لم تأتيا بنتيجة. لم أكتب شيئًا. بل حاولتُ أن أملأ الصمت والعزلة بالأفلام أو بضجيج الأجهزة الكهربائية في المنزل.
كنت ألوم عملي في العيادة البيطرية على عجزي عن الكتابة. ففي بعض الأيام كنت ألعقُ مؤخرتي وأبدأُ بالمواء بعد الغداء، أو أرفرفُ بجناحيَّ كطائرٍ مسرعةً لئلا تفوتني الحافلة، وفي أيام أخرى كنتُ أنبحُ حين يقتربُ مني أحدهم. ولكن في الأمس، في الَمنْجَرَة ، تساقطتْ الكلماتُ كنشارةِ الخشب. ذهنياً كتبتُ قصة، ولكنني حين عدتُ إلى البيت، كنت متعبة جداً فنمت على الكنبة دون أن أغسلَ عني رائحة الصنوبر.
نسيتُ القصة.
حلمتُ بأنني شجرةُ صنوبر.
حين تجد صنوبرةٌ نفسها إزاء عاصفة تحاول كسرها، لا تواجهها الصنوبرة بصدرها الحديدي، بل تُشِيحُ بوجهها وتخفيه عنها. غالبًا ما تَنقَضُ الرياح الأعاصيرية على الشجرة من الجنوب، فيظهر على ظهرها نوعٌ مميزٌ من الخشب يختلف عن سائر لحائها فلا يُكسَر. وفي اصطفافها في مجابهة الريح، تتفكرُ الصنوبرات في صمود الصنوبرات الأخرى التي ترتفع أمامها وتُقدر إحداهن الأخرى إذا لا يعرفُ قوة الصنوبر إلا من يشاركها هذه القوة. يشحنُ ويزيدُ صمود الصنوبرات الهادئ ودروعها الخفية من غضب العاصفة فتعوي الريح مغلوبةً على أمرها كمن يزمجرُ في خربةٍ تنامُ فيها زمرةُ أسود.
*نصوص: كلاوديا أُيوَّا دُنوسو
*ترجمة: مريم الدوسري