كان شيخاً ذا لحيةٍ شيباء وأنفٍ ضخم ويدين كبيرتين. وكان قبل أن نعرفه بوقت طويل طبيباً يذرع شوارع ونسبيرگ في ولاية أوهايو من منزل إلى آخر ممتطياً جواداً أبيض ضامراً. تزوج في وقت لاحق من فتاة ذات مال. ورثت بوفاة والدها مزرعة خصيبة كبيرة. كانت الفتاة هادئة وطويلة وسمراء، وعدّها كثير من الناس في غاية الجمال. تساءل الجميع في ونسبيرگ عن سبب زواجها من الطبيب. وفي غضون عام من الزواج توفيت.
كانت براجمُ الطبيب كبيرة على نحو استثنائي. فعندما يقبض يديه تبدو البراجم كأنها عناقيد من كرات خشبية غير مصبوغة بحجم الجوز تنظِمها قضبانٌ فولاذية. كان يدخّن غليوناً، وبعد وفاة زوجته جعل يجلس طوال اليوم في مكتبه الفارغ قريباً إلى نافذةٍ تغطيها أنسجة العناكب. لم يكن يفتح النافذة قط. حاول ذات مرة في يوم حار من شهر أغسطس، غير أنّه وجد النافذة عالقة، ثم نسي الأمر برمّته بعد ذلك.
نسيتْ ونسبيرگ الرجل العجوز، لكن كانت في الدكتور ريفي بذور شيء ما. لقد كان يعمل وحده بلا كلل في مكتبه المتعفن في مجمع هيفنر، فوق متجر شركة البضائع الباريسية الجافة، ليبني شيئاً دمّره هو بنفسه. نصب أهراماً صغيرة للحقيقة ثم بعد أن نصبها أطاح بها مرة أخرى حتى تكون لديه حقائق يحتاجها لنصب أهرام أخرى.
كان الدكتور ريفي طويل القامة ويرتدي من الملابس بذلة واحدة مدة عشر سنوات. اهترأت لدى الأكمام وظهرت عليها عند الركبتين والمرفقين ثقوب صغيرة. في المكتب كان يرتدي فوقها سترة من الكتّان ذات جيوب ضخمة واظب على حشو قصاصات الورق فيها. بعد بضعة أسابيع تغدو قصاصات الورق كرات صغيرة مستديرة صلبة، وحين تمتلئ بها الجيوب يلقى بها على الأرض. ما كان لديه طوال عشر سنوات سوى صديق واحد، وهو شيخ آخر يدعى جون سپانيارد ويمتلك مشتل أشجار. أحيانا يُخرج الطبيب العجوز ريفي من جيوبه حفنة من الكرات الورقية ويلقي بها على المشتل في مزاج مرح. يصرخ وهو يهتز ضاحكاً: «إنما أربكك بها أيها العجوز العاطفي المبتهج.»
قصة الدكتور ريفي وتودده إلى الفتاة السمراء الطويلة، التي أصبحت فيما بعد زوجته ثم أورثته أموالها، قصة مثيرة للفضول. إنها لذيذة مثل التفاح الصغير الملتوي الذي ينمو في بساتين ونسبيرگ. يمشي المرءُ خريفاً في البساتين والأرض الصقيعية تحت أقدامه صلبة. التقط الجُناةُ التفاح من الأشجار. لقد وُضع في براميل وشُحن إلى المدن حيث يُؤكل في شقق مليئة بالكتب والمجلات والأثاث والبشر. لا يوجد على الأشجار سوى عدد قليل من التفاح المعقود هجره الجناة. يبدو مثل براجم الدكتور ريفي. يقضم المرء منها فإذا هي لذيذة. تجمّعت في بقعة دائرية صغيرة من جانب التفاحة كل حلاوتها. يركض المرء فوق الأرض المتجمدة من شجرة إلى شجرة ويقطف التفاح المعقود الملتوي مالئاً به جيوبه. قلة هم أولئك الذين يعرفون حلاوة التفاح الملتوي.
بدأت الفتاة والدكتور ريفي توددهما أحد أيام الصيف بعد الزوال. كان يبلغ من العمر خمسة وأربعين عاماً آنذاك، وكان قد بدأ ممارسة ملء جيوبه بقصاصات الورق التي تصبح كرات صلبة ثم تُقذف بعيداً. تشكلت هذه العادة عندما كان يجلس في عربته خلف الحصان الرمادي المتعثر ويسير ببطء على طول الطرق الريفية. على الأوراق كانت تُكتب أفكار، ونهايات أفكار، وبدايات أفكار.
أنتج عقل الدكتور ريفي الأفكار واحدة تلو الأخرى. من بين العديد منها شكّل حقيقة نشأت وتضخمت في ذهنه. غيّمت الحقيقة فوق العالم. استحالت فظيعة فتلاشت ثم عادت الأفكار الصغيرة مرة أخرى.
جاءت الفتاة السمراء الطويلة لرؤية الطبيب ريفي لأنها كانت ستنجب طفلاً وخافت. وجدت نفسها في هذه الحالة بسبب سلسلة من الظروف هي الأخرى مثيرة للفضول.
لقد أفضى موت والدها ووالدتها وفدادين الأراضي الغنية التي آلت إليها إلى وجود رَتَلٍ من الخُطّاب يجري في أعقابها. مدة عامين ظلت ترى الخُطّاب كل مساء تقريباً. كانوا متشابهين جميعاً باستثناء اثنين. تحدثا إليها عن الشغف وكانت هناك رنّةُ لهفة متوترة في صوتيهما وفي أعينهما عندما ينظران إليها. لم يُشبه الشخصان المختلفان البقية. أحدهما، وهو شاب نحيف أبيض اليدين كان ابنًا لصائغ في ونسبيرگ، تحدث باستمرار عن العذرية. لم يكن حين يجلس معها ليخرج عن الموضوع أبداً. أما الآخر، وهو صبي أسود الشعر كبير الأذنين، فلم يقل شيئا البتة، لكنه دائماً ما يتمكن من إدخالها في الظلام حيث يُشرع في تقبيلها.
طالما ظنّت الفتاة السمراء الطويلة أنها ستتزوج من ابن الصائغ. تجلس ساعات تصغي إليه في صمت وهو يتحدث، ثم بدأت تخاف من شيء ما. بدأت تعتقد أن وراء حديثه عن العذرية شهوة أعظم من شهوات الآخرين مجتمعين. بدا لها في بعض الأحيان أنه كان في أثناء حديثه إليها يمسك جسدها بين يديه. تخيلته يديره ببطء في اليدين البيضاوين ويحدّق فيه. في الليل حلمت أنه قد عضّ جسدها وأن فكّيه كانا يقطران دماً. رأت الحلم ثلاث مرات، ثم حمِلت ممّن لم يقل شيئاً على الإطلاق، لكنه في لحظة شغفه قد عضّ كتفها فعلاً حتى إن آثار أسنانه البادية بقيت هناك أياماً.
بعد أن تعرّفت الفتاة السمراء الطويلة على الطبيب ريفي تبيّن لها أنها لا ترغب في تركه مرة أخرى. دخلت مكتبه صباحاً ومن دون أن تقول أي شيء بدا أنه يعرف ما حدث لها.
كان في مكتب الطبيب امرأة هي زوجة الرجل الذي يقوم على المكتبة في ونسبيرگ. ومثل كل الممارسين القدامى في الريف كان الدكتور ريفي يخلع الأسنان، وكانت المرأة المنتظرة تضع فوق أسنانها منديلاً وتتأوه. كان زوجها معها وحين خُلعت السن صرخ الاثنان كلاهما وسالت الدماء على فستان المرأة الأبيض. لم تُولِ الفتاة السمراء الطويلة المشهد أدنى اهتمام. عندما غادرت المرأة ورجلها تبسّم الطبيب. قال: «سآخذك بسيارتي إلى الريف.»
بقيت الفتاة السمراء والطبيب معا كل يوم تقريباً عدة أسابيع. تبدلت الحالة التي جاءت بها إليه إلى مرض، لكن الفتاة كانت مثل من اكتشف حلاوة التفاح الملتوي ولم تعد تستأثر بتفكيرها الفاكهة المثالية المستديرة التي تؤكل في الشقق مرة أخرى. في أول خريف بعد بداية علاقتها بالدكتور ريفي تزوجت منه ثم في الربيع التالي توفيت. خلال الشتاء كان قد قرأ لها كل شيء عن الأفكار التي شخبطها على قصاصات الورق. كان يضحك بعد أن يقرأها ويحشوها في جيوبه لتصبح كرات صلبة مستديرة.
*نص: شيرْوُود أندرسن
*ترجمة: علي المجنوني