قصائد من دهن العود، لشعراء تركوا قصائدهم لتتعتق
إبراهيم الحسين
عيون تسع الظلال
أنْ ننسى، أن نضعَ خطّاً فوقَ أحاديث نسند بها لقاءاتنا؛ كي لا تميل
أنْ نضعَه فوقَ ثيابٍ، صمدنا داخلها، ولم نتقهقر..
كنّا جسورين على كلّ ما يجعلنا قريبين من النسيج، لا نتزحزح
أنْ ننسى، أن نُخْرِجَ من جيوبنا كلَّ الطرق، نطوِّحُها قليلاً، ونقذفها مثل حصاة..
الطرق التي درجَتْ فوقها الضحكات، الطرق التي ضاقت، الطرق التي نحُلَتْ فلم تجد غيرَ شرودِنا كي تنطوي فيه أنْ نكفَّ أيدينا عن التواطؤِ مع المرايا.. كي لا تقولَ
أنْ نخرجَ على المرآة، أنْ نفرَّ من حبالها؛ نافرِين أو دامِين حتّى.
ألا نبقى أسيري نظرةٍ بلهاء أنْ ننسى، أن نكسر بيضةَ الحياة، ونسيل، بأبيضِنا وأسودنا، ليس بأيدينا غير عيونٍ تسعُ كلَّ الظلال أنْ نغفر حتّى الغبار، الذي جاء متعباً، فاضطجع واضعاً رأسه على أوّل السطر أنْ نركضَ مسرعين خلف اليد، كي لا تصدم بيأسها، اليد التي استشاطت، فلم تتورّع عن أيِّ شيءٍ حتّى الكتابة.
محمد آل حمادي
إغواء الرتابة بالتكرار والتوقع
كأن تتشبَّث بلحظة انتباه
لتتمركز عليها حاجة شرودك الذهني للتنويع والمعنى
وتجد فرصة لممارسة فن الحوار والاختلاف
مع غنائية الروتين
أقبلُ بدور سخرية الأمكنة الرسميَّة من ازدحامها النهاريّ
مقتحماً ما يلي حيلة الرغبة في الكتابة من هنا
من داخل سور مواقف مستغرقة بخلوِّها الليلي
تحت الحراسة…
خلف كل القصص التي تحدث خارج الانتماء إلى الأرض
خلف كل ما كُتب ويقرأ الآن،
إنني هذه الخطوة غير المجرَّبة
غير مؤكد ومسوَّر بالوساوس والغرائز
أبدو خطيراً جداً قبل حدوثي
رغم أني سهل المقاومة!
مجهول إلا من مخاطر الفشل،
والخوف من الحريَّة
وكأن على هذا الفراغ أن يجد له صوتاً
يكشف به عن نفسه
وأن لا شيء ينقص العالم
سوى أن أتظاهر بجديَّة البحث عن موقف شاغر!
نور البواردي
لتبقَ بيننا
1
“بعض الأشجار تُصبح وقحةً حينما نُغدقها بالترحيب”!
قالتها وهي تتأمَّل الأريكة الخشبيّة المُهملة في فناءِ بيتنا الخلفي،
أنا الوحيدة التي عرفتُ السَّرَّ المُخبَّأ داخل رأسها
وأنَّ زوجها البارحة عانق صديقته على تلك الأريكة.
2
في الشتاء
الملابس وحدَها تبقى دافئة،
الخِزانات الضيّقة تُخفي جيّدًا
أصواتَ القُبَل!
3
إنه أمرٌ غريب
أن ينبح كلب حزين قُربي ليلًا ولا أصحو،
أن يُغنَّي لي أغنيات الجاز التي أكرهها
ولا أصيح: كُفَّ!
أن يقرأ لي قصّة حزينة ثمّ يبكي،
أمرٌ غريب أن يتوقّف عن كلّ هذا
لأن أحدهم مَرَّ فجأة وقال:
منذ صُدمتْ هذه القطّة هنا لم يدفنها أحد!
4
الولدُ الخجولُ
يرسمُ في كفّي نافذة
يُمثَّل دور اللصّ…
…ثمَّ يَدخُلني!
أحمد كتوعة
خدوش
سأفتحُ عيني
الحلم قشعريرة
أتوسّل الهواء أن يتجنبني
لا حنين لرجفةٍ أخرى
سأدعها مطمورة في الجِلد
حتّى أرى عودتي بمفاتيح أكثر برودة من هزيمة الباب
سأفتح عيني
لأحصر أشقياء الليل في جُمجمتي
وأدقق أيّهم شجَّ مؤخرة الرأس ودفن ثقلاً
سأحمل نصف رأس وأخسر الحلم
الممراتُ لن تسألني إن كنتُ داكناً كوحشة
أم وحشاً يسحب الدبيب ويخرج
النظرات التي تخطفني
أيها كانت؟ الطمأنينة نائمة إلى جواري أتلمس شيخوختها
الفأس
الدفن
العابرة
وكيف أواري خدوشاً تركتني غابة تسيل
من مسافة شجرة تتفحّصني
لا ألقي تعباً رؤوماً يلوذُ بقدمي
وهدة السير غبطة للحجارة
الظلُّ لم ينتظرني
حين جلستُ
أسند قدميه إلى كتفي
الشمس جيفة لا تعرف كيف تهرب رائحتها
الحشائش أسماك صغيرة
والسجائر علَّمتني أطيل النظر بوصتين
وأترك للوجوه غشاوتها
يتلبط النسيان
وتُحرق المراكب.
علي العمري
حمَّالة الحطب
أما كنتِ العروسَ ليلةَ اشتعلتْ في المَخدعِ النيران، أما التَحفتِ بالسّواد ليلتها أن صار الزفاف مأتماً، وفي الحداد الذي طال.. ألستِ الجنية ذاتها التي طالما رقصتْ على رفاتِ أيامها! فلماذا لا تقنع أرملة الحريق أن كلَّ ما تأكله النيران هباء، لماذا لا تُسكّنين اللعنة في جحرها، وتقرينَ جاثمةً على ما تكوَّم من رماد، لمَ بيديكِ لازالتْ تُلف حِبال الغواية، ومن أولئكَ الأعداء الذين لأجلهم شُحِذَت كلُّ هذه السيوف، كؤوس الضغينة مترعة فمن يا أم البغضاء ستجرعينها، إلى متى وربة هذا البيت تُقسم بشرف حدادها وبالذي صيَّر القلب قفراً للسباع، أن لا شربت سائغاً، ولا بشَّتْ لمرأى طائر، ولا ذاقتْ من اللحم إلا الكبد المشتهاة، إلى متى يا حَمَّالة الحطب تُلهبين هذا الوجود وكأنَّ الغفران سبيل لا يُشقُّ إلا عبر أودية الجحيم، أو كأنَّ خلاصكِ لا يجدُ المفرّ إلا من باب الانتقام؟!
عبدالله السفر
يخلون سرير محبتهم
دَفَعَ بدمعتِهِ الرسولُ، وهامَ طَيَّ رسالةٍ لم يحملْهَا. أُخِذَ بالتهدّجِ، نالَهُ يأسُ الكائنِ، فراغُ الأملِ من صاحبِه، نفاذُ السكينِ، عُريُ الوردةِ من شوكتِها. وهذا الليلُ الذي لا يحسنُ مدافعتَه، حين الأصدقاءُ بمناكبَ مذعورةٍ يُخْلُونَ سريرَ محبّتِهم ويتهافتون إلى مراكبَ مخلّعةٍ مشقوقةِ الأشرعة. يعرفون أنها ليست مأوى في اليابسة، ولا تصمدُ لماء.
يغادرون فحسب لأنّ الرسولَ فاضتْ به الدمعةُ، وانجرحتْ منه الحنجرةُ؛ فطاشتْ سهامٌ خفيّةٌ لا ترأفُ. سُمُّها ضارٍ يبدّدُ الروحَ، ينثرُ الجمرَ في اللحمِ. يتسمَّى الجرحُ باسمِه. تنكتبُ الخيانةُ. تَطْلُعُ عروقُها السوداء. وفي الهشيمِ يبينُ رداءٌ. بقيّةٌ من رداء لا تسترُ جثّةً شاختْ واسترسلتْ في العتمةِ، يرجّفُها بَرْدُ العقوقِ، نظرةٌ مقصوفةٌ لطائرٍ فُركتْ أجنحتُهُ.
ريشٌ في الهواء. يثقلُ. يحطُّ. يأتيهِ الدمعُ من كلِّ مكان. يثقلُ. يحطُّ. يزفِرُ. يفرفرُ.
لمعتْ الذكرى وانسابَ الحنينُ عن أخلاّءَ متروكين.. مقذوفين بغيرِ يدٍ تهمسُ بالوداع.
ظهورٌ تراصّتْ، بطّطَتْها القسوةُ. شروخٌ تطلُّ على النسيانِ. هاويةٌ موَّهَتْها الخديعةُ. مكيدةٌ تتربّصُ. صخرةٌ نهضتْ من أوّلِ الليلِ تفحصُ وليمتَها؛ تتبعُ خيطَ الدمعِ، شاغرَ الخطى. فمُ الكهفِ يقترب. ينصبُ اليأسُ مشنقتَه للعابرِ بدمعتِه، للزائلِ بلا أثرٍ.. بلا حلمٍ يهوّنُ.. بلا نطفةٍ من ضوءٍ يريقُه. الصخرةُ تتعقّبُه، تلزِمُه مضيقَ الألم. وفي لحظة الصَّعْقِ الفاجرةِ يتلوّى مبهوتاً. أظلمتْ عيناهُ. تشعّثتْ أشلاؤُه . أضَاءتْ دمعتُهُ سريراً، وفي الأفقِ لاحتْ جنازةُ الغريب.
عبدالعزيز الحميد
ناديا
ناديا، شيء غامض بين التفاصيل يا ناديا. كل صباح أخرج إلى النافذة، النافذة يا ناديا لا يمكن الوقوف أمامها. الغرفة مكتظة بالناس الذين أحاول رسمهم، فقط لأعرف الفرق بين الغرفة والنافذة.
الغرفة مليئة بألوان غامضة لم يعد التمييز بينها ممكناً. كل لون يفتح صفحة للعبور الناقص، صفحة لا تبدأ بلون ولا تنتهي بوجه أعرفه. الغرفة موحشة بحق، كبسولات الأدوية التي من فرط ما أسرع ببلعها تسقط على الأرض، ولا يمكن التقاطها لأن الغرفة مبللة بكؤوس الماء. وهكذا الغرفة موحشة وتحتاج إلى حرث الكبسولات التي تحولت فجأة إلى حديث مشترك بين الرطوبة وجاذبية الصرع. والغرفة مضاءة طوال الوقت لأنني أخاف أن أفقد النظر إلى السقف. أخرج إلى النافذة كل صباح يا ناديا، وأمشي. أمشي طوال الطريق بين النافذة ورأس الجسر الذي في طي الاكتمال. رأس الجسر الذي يختبئ خلف بنايات المدينة. وهكذا أعرف أن مدينة كاملة لا تكفي لترميم السماء ولا تصلح للأمل. بين النافذة والأفق يمد الجسر نفسه برأس غامض لا يطابق العبور ولا فكرة النظر. هنا بالتحديد ينتهي الصباح. الساعة الرابعة والنصف أدخل من الباب وأركض إلى عيادة الطبيب النفسي لساعتين. في الساعة الخامسة والنصف أطيل النظر في سقف الغرفة، بين ضجيج الألوان الناقصة وازدحام موتزارت. الساعة التاسعة سأسقط كبسولتين بالخطأ وأبتلع غيرهما. الساعة العاشرة أتمدد في حمام ماء بارد وبيرة من نوع “كرونا”. الساعة الحادية عشر لا أعرف من أين أتيت ولا أعرف من أنا. ولهذا أشاهدني في فيلم درامي. الآن، ياناديا، أعرف من أنا، أعرف أنني كمبارس بطيء الحركة ولا يتحدث أبداً ياناديا. بعد دقيقتين تنتهي قائمة الممثلين والمخرج ومصمم الأزياء وكل شخص باسمه الذي يستحقه. الشاشة الآن يا ناديا، سوداء ولا يمكن سماع قطعة موسيقية لأسباب لا يعرفها كمبارس بطيء الحركة. أشاهد فيلماً آخراً، مقرراً أنني أول شخص سيظهر في الشاشة. الشاشة يا ناديا شارع مكتظ بالناس الذين يعبرون إلى الأمام مقررين أن العبور هو ظهور لا يلتفت إلى الخلف. هنا بالتحديد أعرف من أنا، أعرف أنني شخص لا يعرف نفسه حقاً. أعود إلى الغرفة محدقاً في السقف الذي في أي لحظة سينطق بفكرة ناقصة وعلي إكمالها. غداً يا ناديا، غداً تكتمل الفكرة تماماً، وسأعرف الفرق بين الوحدة والتأهب لانتظار آخر.
هدى ياسر
مُذكرات
أحبُ الظل
في ليالي الفقد يتيحُ
على الجدار جدتي.
في يوم
الأب،
أعانقُ رجلًا تسجل صورته
غيابًا
مقيتًا عن بطاقة العائلة.
على الجدار،
يوزع الظل في عيد
الحب
كنايات القلب،
نثار ورد
وحبيبي بين الكومة
جسده أبيض/أزرق.
..ما لا يعرفه الظل
أن جسده
لا يصلح
للتقمص.
عيد الخميسي
فستان زهري إلى الركبتين
تلك الأغنية تنسكب
من قارورة،
العصافير وهي ترف معًا مندفعة من الشجرة،
المطر مفاجئًا نهار سبتمبر،
الطفلة الراكضة في حقل الليمون
بفستان زهري
إلى الركبتين،
البحر وقد عكس قوس قزح باهر
وتمدد في دلال،
رائحة الحلوى مختلطة برائحة الخشب
في كوخ قرب الحدود،
لون الأعشاب وهي تغمر الجبل،
طعم أول بسكويت اقتسمناه
مع أخت كبرى في طفولتنا،
الرياح وهي تسوي قبعة فتاة بدينة
وتعابث ابتسامات النخيل،
الضوء الباهر وهو يجلو الميادين
والغرف،
أحدثك عن صوتك وهو يضحك
كركرتك تمتنع عن الوصف.
نصوص: إبراهيم الحسين، محمد آل حمادي، نور البواردي، أحمد كتوعة، علي العمري، عبدالله السفر، عبدالعزيز الحميد، هدى ياسر، عيد الخميسي.
إعداد: موزة العبدولي ومهدي محسن