المرأةُ ربَّةُ المنزل
بعض التجليات:
قصيدة: صباح الدبي (شاعرة مغربية)
تبريرات واهمة
1
لأنك بوحي حين تجف اللغات
و ترحل أنهارها الساهمة
لأنك موتي
وبعثي
وقطع من الليل يجتث بدري
وفيض من النور يغتال صدري
تلحفتُ بيتك
2
لأني ينازعني البحر صوتي
لأني أنا التي أزهق الليل أعمارها في العراء
وأورثها فتنة التيه
تشرب من ضوئه المستحيل
تتفستُ صوتك
3
لأن الكلام احتضار
وموت على حافة الشوق
أدمنتُ صمتك
4
لأن الذي كان مثل الضباب
يعرش في العتمة القاتلة
لأني حزنك حين تفيض البحار
و تجد في الغيمة الراحلة
حزمتُ اشتياقي وآنستُ ناري
وعانقتُ موتك…
قصة قصيرة: رشيدة التركي (قاصة تونسية)
بطولة من كارتون
خرجتُ من قاعة المسرح بعد عرض موحش. البرد كأنه الماء البارد يسيل على ظهري فتقعشر له أوصال جسمي فیرتعش. رفعت باقة معطفي الصوفي الأسود وأقفلت أزراره. تأبطت حقيبتي اليدوية الصغيرة وشرعت في وضع القفازات الجلدية السوداء الناعمة.
اندفعت نحو الشارع الطويل المكتظ أبحث عن مكان خال، بعيدا عن جمهرة الناس. رفعت رأسي أمشي بخيلاء، محاولة تقلید بطل المسرحية في مشهد ما، تسلل إلى خیلائی صوت شحاذ أطل من الشارع الضيق الذي يطل على الشارع الكبير، كان بطلب فرنكا واحدا. ينظر بعينيه إلى السماء فلا يراها ولا هي تراه.
تجاوزت الشحاذ وصوته وواصلت المسير. كنت أحس أن خطواتي صارت تتثاقل كأنها تجرنا إلى الخلف بإعياء. وجدت رأسي الذي كان مرفوعا بخيلاء ينخفض ووجدتني أتوغل في الحشد الهائل من الناس الذين كنت أحاول الابتعاد عنهم.
ظللت أواصل السير..
وظل صوته
قصيدة: إيريني رينيوتي (شاعرة يونانية)
أنت في الزنزانة المجاورة
ترجمة: روني بو سابا
نأتي من الظلام
نتوجه إلى الظلام
الباب
نعبره عراة بلا عظام أو جسد
سجن هو العالم
نقضي فيه حكمنا المؤقت
في زنزانات مجاورة- وأحياناً مشتركة-
نغني الأغنية نفسها بصوت منخفض
نتنفس بلا أن نعي النفس
نلبس ثيابًا تعتق مع جسمنا
بينما
في الخارج
تخب بحار
تتغازل ریاح
تجيش ياسمينات
تنفذ أصوات عبر الكوة
تخترق القفرَ شظايا نور
يتلوى على بابنا الربيع
مصابا بجماله نفسه
ونحن ننشد سماء محدقين إلى السقف
الذي يرشح قطرات المطر
2
أي، أنت خلف الجدار
أنت الذي تدمع لي في الخفية
كم أريد أن أعاين محياك!
لعلنا تقابلنا في مكان آخر
في العتمة في دروب المدينة الوعرة
في دخان الشوارع أو في السُّخام
حينما كان يحترق في العين الغبار
والإسمنت الذي يزيد حرافة على اللسان
وقت انكسرت مرايا الصمت
3
أنت، في الزنزانة المجاورة، أريد أن تعلم
تعرف التراب ركبتاي
لساني يعرف طعمه
شفافة من الألم أقترب منك
مخترقة بالسهام أكلمك
أكتب عنك قصائد على الجدران
أهدمها
ألغي السجن
آتمنك على السر
سأهرب.
4
غوص
في اللحظة
في الصمت
في العشق
في الشعر
في الوقت
الغواص الذي يبحث عن سماء
5
كل الندوب التي أحملها في جسمي
هي غطسات تجرأت عليها في الزمن
حجج للكيف واللماذا
السبب: ثقل التوهم
حمل يشدك إلى القعر
لأنه يزن أكثر من الحواس
“أسوار” يسمونها بلغة الشعراء
6
من رحم إلى آخر
من غربة إلى أخرى
من قعر إلى آخر
أعوم دوما لألاقي
قرارة سماء
7
لسنوات يعذبني ألم
إحساس بالفقدان أو بتذكر السماء
ألعل الجناح يوجد
أم يُحبَل به؟
أم هو التوق إلى الطيران
يلبسني أوهامًا
بأنني أستطيع أن أتوازن على الغيوم؟
إن كنت أقدر أن أشق الأثير
فكيف أعوم في ظلمات القعر؟
إن يكن القعر سماء مقلوبة
فعندها إذن يصبح جناحًا على الأكتاف .
8
أجنحة من نور
الأجساد عارية إذ تصارع
صرخة، شهر، سيل، تشنج
من وسط عويل نشيج اللذة
لذة نفسنا.
من الظلمة يتشكل النور.
9
القفر
لا حدود له
تعال معي
الحراس
أمّيون في ضوء الشمس
سنهرب منهم
سنصبح نورًا.
10
عودة إلى الجذور
لننمو بطريقة أخرى
نحتاج حركة واحدة
الحركة الصحيحة
أن نحول الغوص
إلى طفو
أن نرتقي
11
احبس
نفسك
كل لحظة
فإني أغطس.
قصة قصيرة: سيفغي سويسال (قاصة تركية)
خصلة عاطفية
هي الأمور مختلطة هكذا، الناس في الشوارع لا يرونني، مع ذلك، فعواطفي تتنقل بين خصلات شعري ليلا ونهارًا. بعيد ظهيرة رطبة، توقفت عند مفترق طرق؛ عفونة تسبب دوارا بالرأس، السيارات تمر بلا انقطاع، تمر وعلى زجاج نوافذها وجهي الأحمر الغاضب، عبرت ممر المشاة ثلاث مرات، شرطي المرور لم يرني، «استعراض، استعراض» صرخت في وجهه لم يخفف ذلك من غلواء فهري. الغضب يغمرني حتى أخمص قدمي، أخمص قدمي يحترقان كأنني أتجول حافية القدمين على رمل شاطئ متأجج تحت شمس الظهيرة. غضبي من الرجال، جميع الرجال وبخاصة الذين لا يحبون سوى أنفسهم من بعد أنفسهم. حشد غفير من متبلدي المشاعر بمعاطف بزر أو بزرين أو ثلاثة، يمرون بكثافة. كان لدي بصيص أمل بمن لا يرتدي معطفا أو ربطة عنق، لكن هؤلاء لا يتجولون وحيدين، إنهم عاجزون، لم أصادف، لم أصادف أحدا منهم، لو تصادفنا أو لم نتصادف فنحن ذاهبون للصيد. وصلت إلى موقف الحافلات، نساء بصحبتهن أطفال، نساء مع حقائب وبلا أطفال، حقائب بلا نساء، فتيات يمضغن اللبان، دائما ينتظرن وقد ربطن شعرهن كذيل الفرس وهن يمضغن اللبان، لأنتظر معهن، ليت المطر يهطل، فيغسل هذه المواقف.
فتيان اثنان من المدرسة الثانوية يجلسان على الرصيف، هما ينتظران أيضا، اقتربت منهما، أشرت بيدي ليتباعدا، توسطتهما بلطف، حدقا باندهاش، أحدهما «عجبا» قال، «الحافلة» قال، وقال الآخر «دعنا نمش»، لمست وجنتي الاثنتين في آن واحد، قلت لمن على يميني «لحيتك خشنة، استخدم الموسى لحلاقتها». لم يحد كل منهما نظراته عن صندلي، بدأت بتحريك أصابع قدمي، نهضا فجأة وابتعدا مسرعين، نظرت إلى الواقفين في الموقف، عبروا إلى الرصيف المواجه.. هل كانوا سينتظرون معي، هل كانوا قادرين على الانتظار؟ لو وصلت الحافلة، لكنت لقنتهم درسا. جاءت الحافلة واقتربت من رصيفهم، نهض ونفضت تنورتي. هل كانت هذه المدينة هي المكان لإطلاق عواطفي في وضح النهار؟ هذه المدينة كانت على شارع باتجاهين، قادمون وذاهبون بالاتجاهين، بضع واجهات زجاجية، وبعض من الأبنية لا أعلم كم يبلغ عددها، وعدد كبير من مراكز الأحزاب. كل الذنب يكمن في خصلات شعري، لو لم تتموج على هذا النحو، لما كنت عرضت عواطفي بأطرافها ولما استطعت عرضها، تمنيت تثبيت عمود كهرباء جديد، أو مرور مدحلة، أو وقوع شجار، حينئذ، كانوا سينظرون، لن يقاوموا المشهد، مجبرون على ذلك، بقاؤهم مرتبط بذلك. شرعت بالسير صعودا في واحد من الشارعين اللذين يؤلفان المدينة، عندما وصلت إلى الأعلى، أضاءت المدينة أنوارها، حدقنا ببعضنا ببله.
هو ذا ثمرة نتاج اليوم – كوة إطلاق النار – دوار الرأس هذا، كان ثمرة نتاج اليوم تحت قدمي، انهرت أمام الكوة، أخرجت رغباتي من خصلات شعري، الواحدة تلو الأخرى، وألقيت بها من كوة الرمي إلى الأسفل، اختلطت بمجاري المدينة، أووه هذا هو، قلت، وهذا ما كان.
قصيدة: مايا ساريجيفيلي (شاعرة جورجية)
على نهج برين فيلبس
ترجمة: فاطمة ناعوت
ماذا لو أن كل الشعراء قد طوقوا وقتلوا؟
ماذا لو أن كل القساوسة قد أعدموا؟
ماذا لو أن كل الرجال قد سيقوا
ثم أطلقت عليهم النار
أمام المصارف التي حفروها بأنفسهم؟
ماذا لو أن الحكومة قالت:
خلال يومين
لا بد أن تترك بيتك وممتلكاتك
ولا تأخذ إلا ما يكفيك يومين في العراء؟
ماذا لو أن الفتيات الجميلات قد اغتصبن؟
ماذا لو أن الأطفال الصغار قد أخذوا
للأُسر التي ترغب في عبيد
أو حيوانات أليفة؟
ماذا لو أن كل أفراد عائلتك قد ألقي بهم في الفرات؟
ماذا لو أنك وحدك زُجَّ بك إلى باکو؟
ماذا لو أنك في باكو قد التقيت مواطنيك
الذين عاشوا هناك لقرون
وهناك
سوف تكبر
ماذا لو عشت حتى تشيخ مع أطفالك
ومن جديد
منذ عشر سنوات مضت
أتى رجال وأحرقوا بيتك؟
ماذا لو أُجبرت من جديد على الرحيل؟
ماذا لو وصلت إلى الأرمن في كاراباج؟
ماذا لو قُصفوا بالقنابل وشُوهوا وحوصروا؟
ماذا لو تخطيتَ التسعين
وكل ما قد حدث لك
يظل يحدث مجددًا ومجددًا
والعالم من حولك
لا يصدقك؟
ماذا لو كنت أنت
وليس أنا؟
المرأةُ الأم
المزيد من التجليات:
قصة قصيرة: هاجر سعود (قاصة سعودية)
رهاب الآنسة “ع”
فيما تكون أسوأ مخاوف الآخرين متعلقة بالأمراض المُميتة، خسارة مصدر الرزق، العيش في منطقة حرب، أو موت من يحبّون؛ تبدو مخاوف الآنسة “ع” غريبة وشاذة. ولو سألت البشر العاديين، ما أسوأ سيناريو يمكن أن يحدث لهم؛ لأخبروك، سقوط الطائرة التي تقلّهم في المحيط الهندي، أن تقفز أجسادهم في الهواء إثر ارتطامها بسيارة مسرعة، أن تكون أقدام البعوضة التي تحوم فوق فراشهم ملوثة بالملاريا، أن يحترق سلك الشاحن المقلَّد ليلًا أو تنفجر بطارية الهاتف في أثناء وصلها بالسّيارة، أن يُختَطَف طفلهم من حديقة عامة ــ أشياء من هذا القبيل. بينما، بالنسبة إلى الآنسة “ع”، فلو سألتها نفس السؤال، فستجيبك أنّ أسوأ شيء قد يحدث لها هو أن تُضْطَرّ إلى استخدام حمّام عموميّ. وهنا، وقبل أن يقفز القارئ لاستنتاجاته وأحكامه الخاصّة، فلا بدّ أن يعرف شيئًا مّا بشأن الآنسة “ع”، هو أنّها مصابة برهُاب الجراثيم.
بدأ ذلك عندما كانت ذات سبعة أعوام، حين كانت تغلف إطار المرحاض بالمناديل، وقد طلبت من أمهّا قفازًا خاصًّا؛ إذ كانت ترفض أن تلمس أيّ شيء في دورة المياه بشكل مباشر. وقد يظنّ أحدهم أنه يفعل شيئًا مشابهًا، لا سيما حين تَضْطَرّه الظروف الصعبة إلى استخدام الحمّامات العمومية القذرة عند محطات تعبئة البنزين، وأنّ هذا، رغم ما به من نزق، لا بأس به، بل قد يكون محمودًا على صعيدٍ مّا؛ لكنه لن يكون كذلك حين يدرك أنّها كانت تفعل ذلك حتى في منزل العائلة.
حين تزوّجت الآنسة “ع”، وأصبحت السيدة “ع”، كان طلبها واضحًا من البداية، “منزل بثلاث دورات مياه على أقلّ تقدير”. كان مجرّد التفكير في مشاركة الحمّام مع الآخرين يجعلها في مزاجيّة شديدة. في كلّ مرّة تتخيّل فيها شخصًا آخر جلس على المرحاض ذاته، وربّما لم يكن دقيقًا بما يكفي لما يُلْمَس وما لا يُلْمَس؛ مما قد يؤدي، بل سيؤدّي حتمًا، إلى تلويث المكان ببصماته القذرة. في كلّ مرّة يُخيَّل إليها ما يمكن حدوثه خلف هذا الباب المغلق، كلّ تلك الاحتمالات التي فكّرت فيها أو التي لم تخطر على بالها، تصطكّ أسنانها وتتقلص عيناها وينكمش جسدها اشمئزازًا من هذه الوساوس المرعبة.
وفقًا للطبيب الوحيد الذي زارته، فإنّ نزقها وخشيتها من الجراثيم يُصْنَّف رهابًا مرضيًا في حال كان يعرقل سير حياتها الطبيعية. ومن عاشر الآنسة “ع” لوقت كاف، فلديه على الأقل عشرة قصص تدينها بذلك. أمّا بالنسبة إلى السيدة “ع” نفسها، فلم يكن يقلقها تصنيف الأطباء، بل ما كان يشغل بالها هو إن كان ثمة طرق أكثر أمانًا وفعالية للتخلص من الجراثيم، خصوصًا تلك التي تتربّص بها في مراحيض دورة المياه.
لم تساعد في ذلك معرفتها العلميّة ببعض الأمور نتيجة بحثها الدائم عنها، رغم ما يسببه لها هذا البحث من تعاسة. تتذكر بشكل أخصّ المقال الذي قرأته عن ضرورة إغلاق المرحاض بالغطاء قبل سحب السيفون وانطلاق دوّامة الماء؛ لتفادي تطاير جزيئات الفضلات اللامرئية في الهواء، واستقرارها في أماكن عشوائية، كفرشاة الأسنان، خصوصًا إن كانت المغسلة قريبة من موقع المرحاض، وهو الشائع في دورات المياه. لم تكتفِ بعد ذلك بوضع غطاء المرحاض وحسب منذ ذلك اليوم، بل عمَدت، نتيجة انعدام ثقتها في التزام الآخرين، إلى الاحتفاظ بفرشاة أسنانها خارج دورة المياه؛ وهي بذلك قد تكون الإنسان الوحيد الذي يفعل ذلك.
حين انتقلت إلى بيت الزوجية، كانت حدودها واضحة؛ لا يمكن لأحد مهما كان، تحت أيّ ظرف، أن يدخل دورة المياه الخاصة بها. وإن حدث وتجرّأ زوجها على ارتكاب الخطيئة الكبرى، فلن يكفيها قضاء ساعة في تعقيم كلّ شبر من دورة المياه. وهي أيضًا لن تتوقف عن التفكير فيما إذا كان قد تجرّأ أكثر واستخدم صابونتها، والتي تكاد أن تكون الحجر المقدّس وسط المعبد. بالطّبع، ستتفحّص قطعة الصّابون، متجاهلة إنكاره؛ فمن يرتكب انتهاكًا واحدًا لن يكون من الصّعب عليه ممارسة انتهاك آخر. ولن تستطيع، كالعادة، تحديد ما إذا كانت الليونة أسفل القطعة تعود لاستخدامها لها هذا الصّباح، أم أنّها حديثة نسبيًّا نتيجة الانتهاك الأخير. لن تحتمل الشكّ المتواصل، ولن تصدّق أيّ إجابة، لذلك تكون النهاية دائمًا رمي قطعة الصّابون واستبدالها بجديدة.
سابقًا، كان هذا يشكّل صراعًا زوجيًّا؛ وكانت تستاء حين ترى أيّ بلل أو رطوبة تدلّ على استخدام المنطقة المحظورة. وقد أوضحتْ، مرارًا وتكرارًا، بنبرة استعطاف أحيانًا وبنبرة تعنُّتٍ أحيانًا أخرى، أنّها لا تطلب الكثير؛ فهناك ثلاث دورات مياه في هذا البيت. الزوج، بالمقابل، رفض هذا التقسيم المجحف، وأضاف للنّزاع أبعادًا سياسية. فقد أوضح هو الآخر، بجديّة بالغة، أنّ هذا تسلّط غير مبرّر لا يجب الخضوع له؛ وأن الطغاة يَنشأون من هذه التنازلات، والتي تكون دائمًا صغيرة في البداية. الشّعوب التي تقبل الاضّطهادات الصّغرى، لن تجد سببًا للمقاومة حين تكبر هذه الاضّطهادات. وربّما كان يعتقد في قرارة نفسه أنّه يمارس دورًا جيفاريًّا في هذا المنزل الذي قد يستحيل، لولا مقاومته النبيلة، إلى ثكنة عسكريّة. لم يكن أحد يفهم معاناة السيدة “ع”، وبالأخصّ زوجها؛ والذي كان لديه اعتقاد غريب أنّ معظم المتلازمات النفسيّة يمكن تجاوزها بعدم المبالغة في المراعاة، بل والمبالغة في اللّامراعاة إن تطلّب الأمر.
وبعد العديد من المنازلات الزوجيّة، استسلمت السيدة “ع”، وبدأت في الاقتناع بأنّ زوجها قد يكون محقًا، وقبلت، على مضض، مشاركته دورة المياه. لكن أيًّا من ذلك لم يكن يساعدها، ولم يقلّل من أفكار القلق والرُّهاب؛ فقد كانت تقاوم مشاعرها وتكتم أعصابها في كلّ مرة بالقدر ذاته. وقد استنتجتْ، على العكس ممّا قاله زوجها، أنّ هناك أمورًا لا يمكن للإنسان الاعتياد عليها، لكنها لم تشأ أن تذكر ذلك له؛ فاكتفت بالصمت، ولجأت، في نهاية الأمر، إلى الاحتفاظ بقفَّازيْن مطاطييْن وعدّة تنظيف داخل دورة المياه؛ لاستخدامها في كلّ مرة تقرّر فيها استخدام دورة المياه.
بالطّبع، كان هذا غاية في الصعوبة وغير العملية، أن تُضْطَر إلى تنظيف المكان ومسح الجدران، خصوصًا حين تكون على استعجال، أو حين تستيقظ لاستخدامها في منتصف الليل. لذلك كانت تقاوم رغبة الدخول إلى دورة المياه، وتؤجل ذلك قدر الإمكان؛ حتى تُقلّل من عدد مرَّات التنظيف. وما ساعدها على تطوير هذه المهارة أنها، وفي كلّ مرّة تشعر بامتلاء مثانتها، تبدأ في تخيُّل أنّ مثانتها تتسع، تكبر وتكبر شيئًا فشيئًا، كما لو كانت بالونًا ينتهي به الأمر إلى أن يكون أضعاف حجمه الأصلي. وبعد ممارسة هذا الأمر فترة كافية، اكتسبت السيدة “ع” قدرة أعلى على التحكّم والسيطرة على مثانتها؛ وقد وصل ذلك إلى تمكُنها من حبس البول فترة تصل إلى ستّ ساعات. وقد وجدت أنّ تلك مهارة جيدة، لا سيما وأنه لم يعد يساورها قلق استخدام الحمَّامات العمومية. ولقد أضافت لقدرتها على التحكّم تكنيكات وأساليب أخرى، من ضمنها الإقلاع عن تناول القهوة والشاي، والاكتفاء بشرب السوائل في الليل؛ وبذلك يتركّز استخدامها لدورة المياه وقت الليل، بينما يحتلّ زوجها دورة المياه في النهار. وقد نجحت، بعد اعتماد مجموعة من الآليات، إلى تقليص نافذة استخدامها دورة المياه إلى سبع ساعات في اليوم؛ وكانت بالمجمل، لا تُضْطَر إليها سوى ثلاث مرّات في اليوم.
كانت الأمور لتكون على ما يرام، وقد بدت كذلك بالفعل، لفترة طويلة جدًا، لولا آلام شديدة اضْطَرتها إلى الذهاب إلى المستشفى. لم يكن مفاجئًا ولا غريبًا أن نعرف أنها قد أصيبت، بطبيعة الحال، بالتهابات شديدة في المسالك البولية، وكان هذا ما اعتقدت أنّ الأمر عليه في بادئ الأمر. لكن الطبيب شرح لها أنّ الآلام المبرحة التي تعاني منها أكثر جدية من ذلك؛ وسببها تشكُل الحصوات في المثانة والكلى بسبب حبس البول المتكرّر، والذي أدى لانسداد الحالب نتيجة تراكُم الأملاح الصلبة في البول، وأنها قد تحتاج إلى عمليّة جراحية لإزالة الحصوات. كذلك نبّهها الطبيب إلى أنها قد تعاني من ضعف في المثانة، نتيجة الضغط المزمن، وأنها مُعرَّضة أيضًا للفشل الكلوي، إن استمرّت في هذه العادة، نتيجة ارتفاع نسبة الأملاح والسّموم في الجسم. كتب لها بعض الأدوية والمضادّات، ونبهها، بحزمٍ أبويّ، إلى ضرورة التقليل من الأملاح والدهون وشرب الماء باستمرار طوال اليوم.
عادت السيدة “ع” إلى المنزل، وقد شاركت زوجها الأنباء غير السارّة؛ ووجدت أنّ هذه قد تكون فرصة مناسبة لحسم قضية ملكية دورة المياه لصالحها وإلى الأبد. وكان لزوجها رأي مخالف، بطبيعة الحال؛ فقد وجد أنّ ما حدث فرصة سانحة لكي يلوم السيدة “ع” على استهتارها بصحتها، وعلى إدمانها رقائق البطاطس بالخلّ والملح، ووجبات المطاعم الصينيّة، وامتناعها الغريب عن شرب الماء في النّهار. ولقد احتدم الجدال بين السيدة “ع” وزوجها، وتعالت الشتائم المتبادلة؛ وبدأت السيدة “ع” في السخرية من زوجها وأمّه، والذي لم يحتمل ذلك بالطبع؛ فصفعها في لحظة غضب عارمة. وقد كانت هذه المرّة الأولى التي يضرب فيها زوج السيدة “ع” أيّ كائن؛ فهو، وعلى الرغم من كونه إنسانًا لا يطاق، إلاّ أنه لم يكن من أولئك الذين يضربون زوجاتهم. ورغم أنّ الموقف كان مفاجئًا لكليهما، وبالأخص لزوجها الذي تجمَّد في مكانه؛ إلاّ أنه اعتقد أن ما حدث كان مُبَـرَّرًا؛ فلم تكن لأمه علاقة بمشكلة مثانة زوجته. لم يكن مفاجئًا بعد ذلك أن نعرف أنّ السيدة “ع” عادت إلى منزل أهلها، ورفضت العودة لزوجها منذ ذلك الحين. وقد يكون السبب الذي يتراءى لذهن القارئ، ولذهن السيدة “ع” نفسها، أنّ ذلك نتيجة إهانة زوجها لها، وعدم احتمالها لطبيعته المتعنِّتة؛ إلاّ أنّه قد يكون لذلك علاقة أيضًا، ولو بشكل غير مباشر، بحتميّة حصولها على دورة مياهها الخاصة في منزل والدها الكبير، والذي كان يحتوي على سبع دورات مياه ــ ثماني، إن كنّا سنحسب المرحاض والمغسلة في غرفة الغسيل على السطح.
انتهى فصل من حياة السيدة “ع”، والتي عادت للقب الآنسة “ع”، ليس بطريقة سعيدة ولا مأساوية بالكامل؛ فقد كسبت معركة دورة المياه، وخسرت بيت الزوجيّة. ولقد عاشت الآنسة “ع” بعد ذلك في منزل والدها، سنينًا طويلة، رافضة كلّ عروض الزواج، وسعيدة ببقائها في المنزل الذي أصبح ملكًا لها بالكامل بعد وفاة والديها، بما في ذلك دورات المياه السبع/الثماني. وقد بقيت في ذلك المنزل، سعيدة بوحدتها، إلى أن بلغها كبر السنّ، وجاءت الليلة التي تنبّهت فيها الآنسة “ع”، في أثناء نومها، إلى وجود رائحة بول مختمر تطغى على المكان. اعتقدت، شبه نائمة، أنها تحلم، كتلك الأحلام التي تزورها حين كانت تنام مع زوجها وتُضْطَرّ إلى حصر البول لساعات. فتحت عيناها، ولم تختفِ الرائحة، حاولت تتبُع المصدر ــ تبدو كرائحة بول القطط أو الفئران. تلمَّستْ الملاءات في الظلام، وكان تركُّز الرطوبة تحت فخذيها. شعرتْ ببرودة حين رفعت اللحاف، مما زاد يقينها مما كانت تخشى حدوثه. ازداد الأمر سوءًا مع الوقت، وأصبحت الآنسة “ع” تُضْطَر إلى ارتداء الحفاض، ولم تكن لها حاجة، في معظم الأحيان، إلى استخدام دورات المياه السبع، أو الثماني.
وفي أحد تلك الأيام العادية، والتي لا تثير أي شكوك في كونها غير ذلك، وجدت عاملة المنزل الآنسة “ع” وقد فقدت وعيها داخل دورة المياه. وقد اتضح لاحقًا، وفق تقرير الطبّ الشرعي، أن الآنسة “ع” قد خرجت من حوض الاستحمام، وفقدت توازنها، وانزلقت، وضرب رأسها بغطاء المرحاض الذي كان مغلقًا. لكن، وقبل أن يقفز أحدنا لاستنتاجاته وأحكامه الخاصّة، فلا بدّ أن نتذكّر أنّ مخاوف الآنسة “ع”، حين تسألها عن أسوأ سيناريو يمكن أن يحدث لها كانت، وبشكل غريب، قريبة من الواقع.
قصيدة: حصة العامري (شاعرة إماراتية)
أيتها الطمأنينة المتعالية: استيقظي الآن
أيتها الطمأنينة المتعالية
استيقظي الآن.
أريد الخلاص.
ولكن، من فوّهة حربٍ ليست لي
انطلقتُ – بموتي -دفعة واحدة
ولم أصل.
كانت الأيام خافتة كظلال شواهد مقبرة.
ضبابٌ هابط
وخرخشة أقدام تدعك أوراق نبقٍ متساقطة
نوايا باردة
انتقام يلتهمُ اللحظات
وأكثر من هَوَسٍ صامت.
يتربص بي، هذا الذي يبدوني
الذي في قرارة روحه الشاحبة
يقبلُ انكساري الباهر على مدِّ الذاكرة.
أدلهُ عليّ
أمد يدي له
لا شيء تخافه معي، لا أحد هنا حقًا
سوى أقنعتي المتصلبة على بلاط أيامي
ومرآة مُقعَّرة
تخبئُ في حدة زواياها انعكاساتي الدائخة بالسؤال.
تسابق لهاثك،
محاولًا أن تختصر الأمر كلّه في هذا الزمن اللامتناهي.
حيث كان هناك
الخطأ الذي فاتني أن أتداركهُ.
شعرتُ به يشدني من أقصى قعر البدايات
يفصلني بضراوة عن جذوري الثخينة
عن أمي وأبي وصداقاتي الوقتية وظروفي التي
تكونتُ فيها بمرارةٍ عاطفية.
أتخفف من ملامح الملل.
أمرر أصابعي على تقصفات شعري المنتفش
وعلى بدايات التحام فتحتي القرطين
وتقف قليلًا، أصابعي
عند النظرة الموحشة في عيني اليسرى.
أنام عارية
على سجادة أصفهانية تفوح منها نتانة الجوارب
وبساتين السفرجل الفارسي.
كوب الشاي يراوغ الثبات على بطني
أختبر توازني بخيالاتٍ سارحة.
سخونة الدفق الأحمر
السرّة تتسع
لأحلم بنافذةٍ إذا ما قفزت منها
أقفز مني
أصيرُ احتمالًا جميلًا لجارٍ يمر بيومٍ سيء.
بينما هناك في أفكاري العادية،
وفي أحلامي المكررة
أربي فائض مخاوفي
كسهامٍ سميَّة
أطلقها على سذاجات البراءة.
وعند نقطة اللاعودة
أتذكر طويلًا
المرة الوحيدة التي صدقتُ فيها
أنني قد صدقت الأمر كلّه.
بينما أن
اليد التي تلوت بحساسيةٍ بالغة
على يدي،
كم مرة كادت أن تنجيني منّي
لو أنها ظلت كذلك لمدة أطول؟
تعادل كل هذا التحمل،
كل هذا التربص
كل هذه الفداحة
كل هذا العمر
هذه اليد البعيدة.
قصة قصيرة: حجاب امتياز علي (قاصة باكستانية)
وحصل له حادث
أدخل إلى غرفة العلميات وهو مستلق على نقالة الجرحى، هذا اليوم كان ينظر حوله وهو يقف في شرفة الطابق العلوي من منزله. الصباح كان مشرقا ورائعا عندما سقط فجأة من هذا العلو إلى الأرض. لا يبدو أن أحدا قد دفعه، ولا كانت أرضية الشرفة من الضعف بحيث تنهار تحت وطأة وزنه. كيف إذن سقط إلى الأسفل وعلى أي حال، ما الغريب في ذلك؟ لقد كانت تلك حادثة مثل كل الحوادث التي تحصل يوميا. حتى هو نفسه لم يكن واعيا بما فيه الكفاية ليفكر في هذا الأمر. وهو من النوع الذي يفكر في كل التفاصيل، من الواضح أنها زلة قدم جعلته يفقد توازنه، ويسقط. هذا السبب بدا مقنعا بما فيه الكفاية: لقد سقط نتيجة فقدانه توازنه، والحوادث تحصل هكذا. عندما أحضر إلى غرفة العلميات، وعلى رغم أن جسده كان لا يتحرك وفاقد الإحساس کالجثة، إلا أن عقله كان شديد الهيجان کالمحيط، في انحساره وتدفقه ذاتهما، وبأمواجه المتلاطمة، إن عقل الإنسان لا يخلو أبدا من القلق والصراع. كان لا يعي شيئا مما يحيط به. لم يكن بوسعه أن يرى الأغطية البيضاء التي تعلو رؤوس الممرضات، ولا وجوه الأطباء المقنعة، كانت عيناه لا تبصران الوهج الذي يصدر من الأنوار القوية لغرفة العلميات، وأذناه لا تسمعان أصوات المقصات والمشارط. كان كذلك لأننا عندما تتذكر ولو حتى قيد أنملة من ماضينا، فإننا لا نعي جبلا في الحاضر. لم يكن يعلم سبب إحضاره إلى هناك، ومع ذلك فإن سامعية ذاكرته وعين عقله تستطيعان أن تريا إلى مسافات بعيدة. مانو! مانو! وصل الصوت إلى آذانه. تساءل عمن يكون صاحب الاسم وهو لا يزال يتردد في أودية الماضي السحيقة. ثم تذكر فجأة أن مانو هو الجرو الصغير الذي استعاره من صديقه وأخذ يعتني به، مانو كان صغيرا لدرجة أنه لم يكن يستطيع أن يمص الحليب، ولذلك يظل يئن بصوت مملوء بالألم طوال الليل مما يثير اشمئزاز الجيران، ولو تركنا الجيران جانبا، فإن والدته حملت کرها لا معقولا للجرو. مرات عديدة وبخته والدته بغضب “تخلص من هذا الجرو وإلا سممته!” إن هذا البائس يواصل صراخه طوال الليل٬ ولكن اليوم، بعد كل تلك السنين، لماذا يتذكر مانو؟ إنه الآن في الثلاثين من عمره، ومانو کان سخافة منسية من أيام طفولته! وقد حصل أن مانو لم يسممه أحد، ولكن الطبيعة نفسها انقلبت ضده. دهسته دراجة بينما كان يمرح على الطريق. بعد تلك الحادثة، أصبح مانو عزيزا جدا على والدته. أحضرت مرهما لجروحه من السوق، وقامت بعلاجه وتضميده. وضعت له سريرا جديدا وأصبحت تتحمل عويله المزعج بجلد وثبات. يا لذاك الجرو المسكين! لقد جرح وأدرك أن ذلك الحادث الخطير جعل والدته ترثي لحال الجرو الصغير. وابتدأ صوت عويل مانو يمحى تدريجيا بينما خطرت على باله حادثة أخرى من الماضي القريب. في ذلك اليوم، الجمعة، غادر المكتب مبكرا قليلا. وفي طريقه إلى المنزل قرر أن يذهب مع زوجته فيروزة للتنزه بالقارب وسيأخذ معه بعض المرطبات كذلك. على الطريق نفسها يقع منزل أحد أصدقائه. توقف هناك ودعاه ليصحبهما. وللحظات خطر بباله أن صديقه هذا لا يعجب زوجته وريما أنها ستنزعج لدعوته، لكنه فكر في أنه سيستطيع إقناعها، فأحمد ليس سيئا بالقدر الذي تظنه هي. لا أحد ينكر أنه كاذب، ولكن من منا لا يكذب؟ اشترى شطائر الدجاج وأصابع الجبن وأسرع إلى المنزل، كان حاملا أكياس الطعام، وود أن يصرخ فرحا كطفل وهو يعانق فيروزة، وأن يخبرها بأنه حصل على إجازة إضافية. وعندما وصل منزله صاح فيروزة، فيروزة! انظري إلى ما أحضرت. لقد سمحوا لنا بمغادرة المكتب مبكرا اليوم٬ وتركت زوجته ما بيدها من أعمال المنزل وجاءت إلى الغرفة. ما الذي أحضرته؟ شطائر الدجاج وأصابع الجبن، سنذهب في القارب، قال ذلك وهو يضحك. إجازة من المكتب تثيرك كطفل هارب من مدرسته، قالت مداعبة. قال وقد شعر بانزعاج قليل ولو ذهبت إلى المكتب كل يوم ستفهمين أن نظامه وقوانينه تعني لنا الشيء نفسه الذي تعنيه المدرسة والعبودية للطفل. حسن، ضعي كل هذه الأشياء في سلة الغداء واملئي الترمس بالشاي، هيا، يجب أن تسرع حيث إني طلبت من أحمد أن يدبر لنا زورقا، سيكون بانتظارنا على الشاطئ.» لماذا نحتاج أحمد ليصحبنا؟ قالت بنبرة تخلو من السعادة، كان باستطاعتنا أن ندير الزورق بسهولة عندما نصل إلى الشاطئ. أنا لا أحب أحمد بصوته العالي.
“لا يبدو أن أسبابك مقنعة. وأحمد ليس سيئا. لماذا تكرهينه؟” حسن! لأنه يثرثر كثيرا كما أنه ينقل الكلام من شخص لآخر. أليس هذا كافيا؟
“إنني أكره الناس الخطرين أمثاله”. وضحك قائلا “هؤلاء الناس هم حياة الحفلة وروحها، سامحيه هذه المرة ولا تظهري عدم سعادتك. لقد لاحظك المرة السابقة.”
“ووافق أن يصحبنا اليوم؟ من يستطيع أن يعجب بشخص كهذا لا يستحي من شيء؟ قالت فيروزة بازدراء. «حسنا حسنا تحمليه اليوم فقط. لن أدعوه ثانية. إنه بانتظارنا على الشاطئ الآن». ووصلا إلى الشاطئ. وبمحض الصدفة، وبعد أقل من نصف ساعة منذ بدأت المجموعة الصغيرة بالتنزه بالقارب، ارتفعت سحابة داكنة وهبت عاصفة قوية وضربت موجة من الريح الزورق بعنف مما أدى إلى انقلابه. بعد ساعة، تمكن هو وزوجته من الوصول إلى الشاطئ بسلام، ولكن لم يعثر لأحمد على أثر. الكل اعتقد أنه قد غرق، أحدهم قال إن سمكة التهمته، وقال آخر لا بد وأنه قد فقد وعيه وأن الأمواج سحبته بعيدا. شعر بأن تلك الحادثة قد أثرت كثيرا على فيروزة. وقالت بصوت حزين تملؤه الدموع: واحسرتاها من كان يعرف أن أحمد سيفارقنا هكذا؟
ظننت أنك ستسرين لما حصل، علق ساخراً.
” لم أكن عدوته”
ولكن في اليوم التالي، عثر الصيادون على أحمد وهو فاقد الوعي. وقبل أن يحضره إلى منزله ليعتني به، تحدث إلى زوجته فيروزة أولا. رجاها قائلا: إذا لم تمانعي، فهل يمكنني أن أحضر أحمد إلى هنا سيعود إلى منزله بعد أن يتحسن وضعه، وأجابت فيروزة بعاطفة” أرجوك أحضره إلى هنا. تلك الحادثة في الماء قد غسلت کرهي له”.. وهكذا أحضر أحمد إلى منزله. ثم لا حظ أن الحادثة قد غيرت موقف زوجته تماما. في السابق، لم تكن تحتمل وجود أحمد، ولكن الآن أصبحت فيروزة تشعر بالسعادة وهي تلبي له طلباته. وفكر أن تلك الحادثة قد جعلت من أحمد شخصا يستحق العطف بنظر فيروزة. شعر يتشابه معین بین والدته وزوجته، حادثة مانو والآن هذه الحادثة في هذا السياق، فالمرأتان متشابهتان، وفي سياق آخر، فهما مختلفتان تماما. من يستطيع أن يتحمل امرأة لا تشبه والدته في بعض الأمور؟ لو كانت فيروزة تختلف تماما عن والدته، مثل اختلاف الليل والنهار، لكانت مقبولة. ولكن ما يحيره هو أنه على الرغم من تشابههما ظاهرا، إلا أنهما مختلفتان، واحسرتاه! ذلك سبَب صراعا، وزاد اضطراب قلبه. قبل حادثة اليوم ببضعة أيام، كان قد بدأ يشعر ببعض الحزن تجاه زوجته. لقد أحبها كثيرا، ولكنه في الوقت نفسه كان يحمل الكثير من الشكوى منها في قلبه. لم يستطع أبدا أن يفهم شكواه بطريقة عملية وكيف يمكنه ذلك؛ هو نفسه غافل عن أسباب تلك الشكوى. إذن كيف يستطيع أن يتشاجر مع زوجته أو يتذمر منها؛ وتذكر، في إحدى الليالي تجادل مع زوجته حول موضوع صغير، عندما استيقظ في الصباح شعر بتوعك. كان متأكدا بأن زوجته ستتلهف من القلق بسبب مرضه حتى إنها يمكن أن تدلك له رأسه. ولكن شيئا من ذلك لم يحصل. يومها رمقته فيروزة بنظرة غاضبة وقالت: حان وقت المكتب. انهض، تناول فطورك ثم اذهب.
ولم يعرف كيف تلاشت سخونته وكيف اختفى صداعه. وفي دقائق كان قد استعد وغادر البيت. ولكن الأسى والكآبة جعلاه يتكاسل ويتراخى، بعد الظهر اصطحبه أحد أصدقائه إلى منزله. لعب مع صديقه الورق طول المساء وتبددت -كما يبدو- كآبته، ولكنه عندما ارتقى درجات سلم منزله، عاد له غضبه بلا وعي، وظهر بحر من الاكتئاب في عينيه. وبروح محبطة، مر بجانب زوجته وذهب إلى غرفته. ما بك يا حبيبي؟ تعال إلي! ترددت أصداء كلمات زوجته المحببة إليه في أذنيه المصغيتين. تتناسى كل شيء، وكان على وشك أن يسرع إلى زوجته لكنه أدرك أن ذلك لم يكن صوتها، وإنما صوت المذياع قادما من الطابق العلوي، كانت تمثيلية تذاع. وربما كانت أذناه قد سمعنا ما كانتا تتوقان إلى سماعه. ومهما كان ذلك الصوت، فإنه لم يكن صوت زوجته. ظل واقفا لا يتحرك، وغمره الاكتئاب. في اليوم التالي، كان يقف في الشرفة في الطابق العلوي، ينظر حوله. كان النهار مشرقا وجميلا، فجأة، ومرة واحدة، لا أحد يعرف كيف سقط إلى الأرض. وتركت زوجته كل أعمالها المنزلية لتكون بجانبه. نعم! بجانب فراشه. هكذا تحصل الحوادث.
قصيدة: دعاء سويلم (شاعرة فلسطينية)
يا رب أنا امرأة فلسطينية
یا رب، أنا امرأة فلسطينية
لا أحب الكعب العالي
ولا ربطات العنق
لأنني أعرف كيف يبدو شكل البشر من فوق
أريد أن يكون الجميع أقزام
بحيث لا أخاف أن يمسك أحدهم رقبتي
وأنا أخلع حذائي.
یا رب، هذا الصباح ليس لي
البشر يستيقظون لأجلك
للعمل
لأولادهم
لصباح الخير
سأفتح لك صندوقي البريدي،
انظر
لا رسالة واحدة فيه
تشجعني على النهوض.
كل يوم أحسب المتبقي من الأيام
أضع الكثير من الاحتمالات
مثل الموت بنوبة قلبية من شدة الحزن
أو الإفراط بشرب القهوة ظناً بأنها كحول
أو أن تقوم القيامة..
منذ وقت طويل لم يهجرني أي أحد
ربما لكونهم خرجوا دفعة واحدة معاً
فهم يحبون الوقت
إني أفتقد لذلك
أن أستيقظ لأجل مشكلة تحصل مع كل النساء
لأجل خيبة جديدة.
قصة قصيرة: إيزابيل إيبهارت (قاصة فرنسية)
الغريمة
في أحد الصباحات، توقفت الأمطار المشجية فجأة، وأطلت الشمس في سماء صافية صراح، ذات زرقة بالغة وقد اغتسلت من أبخرة الشتاء الباهتة.
في الحديقة المنزوية كانت شجرة الأرجوان الكبيرة تمد أذرعها الموسوقة بالأزهار الوردية الصينية.
إلى اليمين يمتد الانعطاف البادخ لروابي مصطفى وينأى في شفافية لامتناهية.
كانت هناك شجرات ذهبية على الواجهات البيضاء للفيلات.
هناك بعيدًا تنبسط أجنحة الزوارق النابوليثانية الشاحبة على موج الخليج الهادئ.
تَمرّ نسمات مفعمة بالرقة في الهواء الدافئ.
تقشعر الأشياء فجأة فتستفيق في قلب المتشرد أوهام الانتظار، والاستقرار والسعادة.
ينعزل مع تلك التي أحبها وحبها قلبه في المنزل الصغير حيث تمر الساعات بلا إحساس في وهن سائغ، وراء المشربية ذات الخشب المنحوت، وراء الستائر ذاوية الألوان.
في الجهة المقابلة كان الديكور الكبير للجزائر وهو يدعوهما إلى احتضار لذيذ.
لماذا الرحيل، لماذا البحث عن السعادة في مكان آخر، والمتشرد يعثر عليها هنا؟ لا حد لها في ثمر البرقوق المتغير للحبيبة حيث يغوص بنظراته طويلًا، إلى أن تسحق كآبة الشهوة القصوى روحيهما؟
لماذا البحث عن فضاء حين تنفتح خلوتهما الضيقة على الآفاق الفسيحة، حين يحسان أن الكون فيهما يختزل؟
كان كل شيء عدا حبّه يبتعد…يرتدّ إلى موجات تنأى.
يتخلى عن حلمه الداعي للفخر بالوحدة، يتنكر لديار الصدف، المخاطرة والطريف الصديقة، تلك الخليلة المستبدة، المنتشية بالشمس، تلك التي طالما أخذها وأحبها.
استسلم بقلبٍ مضطرم ساعات وأيامًا لهدهدة إيقاعات النشوة التي كانت تخيل إليه أزلية.
كانت الحياة والأشياء تبدو في مخيلته جميلة، فكّر أيضًا أن الآن وضعه صار أحسن، وقد غدا أكثر رقة في قوة سلامة جسمه المنكس، وطاقة إرادته الذاوية.
…في الماضي، أيامُ المنفى وفي خضم السأم الساحق للمعيشة الحضرية في المدينة، كان قلب المتشرد يعتصر وجد لذكريات فتنة المشهد الساحر للشمسي على السهل الطليق.
والآن وهو يفترش سريرًا دافئا في شعاع من أشعة الشمس الذي يتسلل من النافذة المشرعة، يمكنه أن يستحضر وبصوت خافت جدًا في أذنِ الحبيبة رؤى وطن الأحلام، ممزوجة فقط بالكآبة المبهمة الرقيقة كأنها عطر الأشياء الميتة.
لم يعد المتشرد يأسف على أي شيء. إنّه لا يرغب إلا في تلك اللحظات السرمدية للذي كان.
أسدل الليل الدافئ ستائره على الحدائق. صمت يخيّم، وتنهيدة عميقة تصاعد، تنهيدة البحر الذي ينام هناك المنخفض السحيق تحت النجوم. تنهيدة الأرض المفعمة بحرارة الحب.
نيران تتوهج كاللآلئ على قمم الروابي الغضة. أخرى تناثرت على الساحل كأنها حبّات مسبحة ذهبية، وأخرى تشتعل كأنها عيون حائرة في مخمل ظل الأشجار الباثقة.
خرج المتشرد وحبيبته إلى الطريق المقفرة إلا منهما، وقد اشتبكت أيديهما وراحا يبتسمان في الليل.
لم يتكلما، ففي الصمت يتفاهمان أكثر.
وصعداء المنحدر الساحلي ببطيء، بينما كان القمر ينبعث من بين أشجار الأوكاليبتوس على أولى تضاريس متيجة المنخفضة.
وجلسا على صخرة.
ينبعث بريق أزرق على الريف الليلي، وتهتز أرياش البلشون الفضيّة على الأغصان الرطبة.
تفرّس المتشرد في الطريق طويلًا، الطريق الفسيحة البيضاء المسافرة بعيدًا، في المدى.
طريق الجنوب
واهتزّ عالم من الذّكريات في روح المتشرد التي استيقظت فجأة.
أغمض عينيه ليطرد تلك الرؤى، وتشنجت يده في يد الحبيبة وهو يشدها
لكنه، رغما عنه، يفتح عينيه.
عشقه القديم للخليلة المستبدة المنتشية بالشمس يعاوده من جديد، كان لها بكل وجدانه.
وهو ينهض، ألقى نظرة طويلة إلى الطريق للمرة الأخيرة:
لقد كان موعودا بها.
… دخلا ظل حديقتهما المفعم بالحياة وخلدا للنوم في صمت تحت شجرة الكافور الباسقة.
فوق رأسيهما كانت شجرة الأرجوان تمد أذرعها الموسوقة الملأى بأزهار وردية تبدو كأنها بنفسجية، في الليل الأزرق.
ينظر المتشرد إلى حبيبته الجالسة قربه.
لم تعد سوى رؤية ضبابية مائعة وستنقشع في ضياء القمر.
كانت صورة الحبيبة باهتة، بعيدا هناك بالكاد تنجلي.
حينئذ أدرك المتشرد الذي لم يزل قلبه ينبض بحبها أنه سيرحل في الفجر، وانقبض قلبه.
أمسك زهرة كبيرة من الكافور العاطر وقبلها كي يخفي شهقة.
وراء الخط الأسود للأفق، كانت الشمس الحمراء قد تلوثت في بحر من الدم.
وبسرعة انطفأ النهار، وغرقت الصحراء الصخرية في شفافية سوداء.
واشتعلت بعض النيران في ركن من السهل.
بدو رحالة مسلحون بالبنادق يهزون ستائرهم الطويلة البيضاء حول اللهب المضيء.
يطلق حصان مشكول صهيله.
رجل يجلس القرفصاء، رأسه إلى الوراء، مغمض العينين كما في حلم يدندن أغنية شعبية قديمة كئيبة حيث تتناوب كلمة حب مع كلمة موت.
ثم صمت كل شيء في المدى الشاسع الأخرس.
نائما كان المتشرد، قرب نار نصف مطفأة وقد تسربل ببرنوسه.
متكئا برأسه على ذراعه، منهك القوى، استسلم إلى السكينة اللامتناهية في أن ينام وحيدا مجهولا بين أناس بسطاء وأجلاف، مجهولا حتى من الأرض، الأرض الطيبة المهدهدة، في مكان مجهول من الصحراء وحيث لا يعود أبداً.
قصيدة: كزال أحمد (شاعرة كردية)
الرسالة
ترجمة: وليم العوطة
على ورقة عادية
أرسل القمر
هذه السطور البسيطة إلى مسكن الشمس:
“بعد كل هذه السنين من انتظارك،
يحرجني
أن أسأل:
لماذا لا تتزوجينني”
الشمس، عبر نجمة من النجوم،
ردت:
“بعد كل هذه السنين من الاختباء عنك،
لا أريد إخبارك أنني:
لا أجرؤ”.
*أعد هذا الملف: عبير أحمد، موزة العبدولي